التفاسير

< >
عرض

ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٣
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى ٱلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
١٤
أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٥
-المجادلة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما دل ختم الآية على التخفيف، وكان قد يدعي مدعون عدم الوجدان كذباً فيحصل لهم حرج، وكان تعالى شديد العناية بنجاة هذه الأمة، دل على لطفه بهم بنسخه بعد فرضه. فقال موبخاً لمن يشح على المال نادباً إلى الخروج عنه من غير إيجاب: { أأشفقتم } أي خفتم من العيلة لما يعدكم به الشيطان من الفقر خوفاً كاد أن يفطر قلوبكم { أن تقدموا } أي بإعطاء الفقراء وهم إخوانكم { بين يدي نجواكم } أي للرسول صلى الله عليه وسلم، وجمع لأنه أكثر توبيخاً من حيث إنه يدل على أن النجوى تتكرر، وذلك يدل على عدم خوفهم من مشقة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ووجود خوفهم من فعل التصدق فقال: { صدقات } وكان بعضهم ترك وهو واجد فبين سبحانه رحمته لهم بنسخها عنهم لذلك في موضع العقاب لغيرهم عند الترك.
ولما كان من قبلنا إذا كلفوا الأمر الشاق وحملوا على التزامه بمثل رفع الجبل فوقهم، فإذا خالفوا عوقبوا، بين فضل هذه الأمة بأنه خفف عنهم، فقال معبراً بما قد يعشر بأن بعضهم ترك عن قدرة: { فإذ } أي فحين { لم تفعلوا } أي ما أمرتم به من الصدقة للنجوى بسبب هذا الإشفاق { وتاب الله } أي الملك الأعلى الذي كان من شأن ما هو عليه من العظمة أن يعاقب من ترك أمره { عليكم } أي رجع بمن ترك الصدقة عن وجدان، وبمن تصدق وبمن لم يجد إلى مثل حاله قبل ذلك من سعة الإباحة والعفو والتجاوز والمعذرة والرخصة والتخفيف قبل الإيجاب ولم يعاقبكم على الترك ولا على ظهور اشتغال ذلك منكم، قال مقاتل بن حيان: كان ذلك عشر ليال ثم نسخ، وقال الكلبي: ما كانت إلا ساعة من نهار. وعلى كل منهما فهي لم تتصل بما قبلها نزولاً وإن اتصلت بها تلاوة وحلولاً { فأقيموا } بسبب العفو عنكم شكراً على هذا الكرم والحلم { الصلاة } التي هي طهرة لأرواحكم ووصلة لكم بربكم { وآتوا الزكاة } التي هي نزاهة لأبدانكم وتطهير ونماء لأموالكم وصلة بإخوانكم، ولا تفرطوا في شيء من ذلك فتهملوه، فالصلاة نور تهدي إلى المقاصد الدنيوية والأخروية، وتعين على نوائب الدارين، والصدقة برهان على صحة القصد في الصلاة.
ولما خص أشرف العبادات البدنية وأعلى المناسك المالية، عم فقال حاثاً على زيادة النور والبرهان اللذين بهما تقع المشاكلة في الأخلاق فتكون المناجاة عن أعظم إقبال وإنفاق فقال: { وأطيعوا الله } أي الذي له الكمال كله فلم يشركه في إبداعه لكم على ما أنتم عليه أحد { ورسوله } الذي عظمته من عظمته في سائر ما يأمر به فإنه ما أمركم لأجل إكرام رسولكم صلى الله عليه وسلم إلا بالحنيفية السمحة، وجعل المحافظة على ذلك قائمة مقام ما أمركم به، ثم نسخه عنكم من تقديم الصدقة على النجوى.
ولما كان قد عفا عن أمر أشعر السياق بأنه وقع فيه تفريط، فكان ذلك ربما جرى على انتهاك الحرمات، رهب من جنابه بإحاطة العلم، وعبر بالخبر لأن أول الآية وبخ على أمر باطن ولم يبالغ بتقديم الجار لما فيها من الأمور الظاهرة. فقال عاطفاً على ما تقديره: فالله يحب الذين يطيعون: { والله } أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً { خبير بما تعملون * } أي تجددون عمله، يعلم بواطنه كما يعلم ظواهره.
ولما أخبر بإحاطة علمه ردعاً لمن يغتر بطول حلمه، دل على ذلك باطلاعه على نفاق المنافقين الذي هو أبطن الأشياء، فقال معجباً مرهباً معظماً للمقام بتخصيص الخطاب بأعلى الخلق صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على أنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره: { ألم تر } ودل على بعدهم عن الخير بحرف الغاية فقال: { إلى الذين تولوا } أي تكلفوا بغاية جهدهم أن جعلوا أولياءهم الذين ينزلون بهم أمورهم { قوماً } ابتغوا عندهم العزة اغتراراً بما يظهر لهم منهم من القوة { غضب الله } أي الملك الأعلى الذي لا ند له { عليهم } أي على المتولين والمتولَّين لأنهم قطعوا ما بينهم وبينه، والأولون هم المنافقون تولوا اليهود، وزاد في الشناعة عليهم بقوله مستأنفاً: { ما هم } أي اليهود المغضوب عليهم { منكم } أيها المؤمنون لتوالوهم خوفاً من السيف ورغبة في السلم { ولا منهم } أي المنافقين، فتكون موالاتهم لهم لمحبة سابقة وقرابة شابكة، ليكون ذلك لهم عذراً، بل هم مذبذبون، فهم مع المؤمنين بأقوالهم، ومع الكفار بقلوبهم، فما تولوهم إلا عشقاً في النفاق لمقاربه ما بينهم فيه، أو يكون المعنى: ما المنافقون المتولون من المسلمين ولا من اليهود المتولين، وزاد في الشناعة عليهم بأقبح الأشياء الحالم على كل رذيلة، فقال ذاكراً لحالهم في هذا الاتحاد: { ويحلفون } أي المنافقون يجددون الحلف على الاستمرار، ودل بأداة الاستعلاء على أنهم في غاية الجرأة على استمرارهم على الأيمان الكاذبة بأن التقدير: مجترئين { على الكذب } في دعوى الإسلام وغير ذلك مما يقعون فيه من عظائم الآثام، فإذا عوتبوا عليه بادروا إلى الإيمان.
ولما كان الكذب قد يطلق في اللغة على ما يخالف الواقع وإن كان عن غير تعمد بأن يكون الحالف يجهل عدم مطابقته للواقع، قال نافياً لذلك مبيناً أنهم جرؤوا على اليمين الغموس: { وهم يعلمون * } أي أنهم كاذبون فهم متعمدون، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:
"يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق أسمر قصيراً خفيف اللحية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك، فحلف بالله ما فعل فقال له: فعلت. فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه" ، فنزلت.
ولما أخبر عن حالهم، أتبعه الإخبار عن مآلهم، فقال دالاًّ - كما قال القشيري - على أن - من وافق مغضوباً عليه أشرك نفسه في استحقاق غضب من هو غضبان عليه، فمن تولى مغضوباً عليه من قبل الله استوجب غضب الله وكفى بذلك هواناً وحزناً وحرماناً، معبراً بما دل على أنه أمر قد فرغ منه: { أعد الله } أي الذي له العظمة الباهرة فلا كفوء له، وعبر بما دل على التهكم بهم فقال: { لهم عذاباً } أي أمراً قاطعاً لكل عذوبة { شديداً } يعلم من رآه ورآهم أن ذواتهم متداعية إليه ضعيفة عنه.
ولما أخبر بعذابهم، علله بما دل على أنه واقع في أتم مواقعه فقال مؤكداً تقبيحاً على من كان يستحسن أفعالهم: { إنهم ساء } أي بلغ الغاية مما يسوء، ودل على أن ذلك كان لهم كالجبلة بقوله: { ما كانوا يعملون * } أي يجددون عمله مستمرين عليه لا ينفكون عنه من غشهم المؤمنين ونصحهم الكافرين وعيبهم للإسلام وأهله، واجترائهم على الأيمان الكاذبة، وأصروا على ذلك حتى زادهم التمرن عليه جرأة على جميع المعاصي.