التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٣
فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٤
-المجادلة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما هجن سبحانه الظهار، وأثبت تحريمه على أبلغ وجه وآكده، وكان ما مضت عليه العوائد لا بد أن يبقى منه بقايا، أتبع ذلك بيان حكم هذه الواقعة وما لعله يقع من نظائرها فقال: { والذين يظاهرون } ولما كان في بيان الحكم، أسقط التقييد إعلاماً بعمومه الكفار كعمومه المسلم ليفيد تغليظ العقاب عليه لئلا يتوهم أنه يخص العرب الذين قصد تهجينه عليهم بأنهم انفرادوا به عن سائر الناس فقال: { من نسائهم } بدون { منكم }.
ولما كان مقتضى اللفظ المباعدة ممن قيل ذلك فيها، لكان إمساكها بعده ينبغي أن يكون في غاية البعد، قال مشيراً إلى ذلك بأداة البعد { ثم يعودون } أي بعد هذا القول { لما قالوا } بالفعل بأن يعاد هذا القول مرة أخرى أو بالقوة بأن يمسكوا المقول ذلك لها زمناً يمكن أن يعاد فيه هذا القول مرة ثانية من غير مفاقة بلفظ مما ناط الله الفرقة به من طلاق أو سراح أو نحوهما، فيكون المظاهر عائداً إلى هذا القول بالقوة لإمكان هذا القول في ذلك الزمن، وذلك لأن العادة قاضية بأن من قال قولاً ولم يبته وينجزه ويمضه بأن يعود إلى قوله مرة أخرى وهلم جراً، أو يكون التقدير لنقض ما قالوا: فيحلوا ما حرموا على أنفسهم بعدم البت بالطلاق، فإن كان الظهار معلقاً لم يلزم حكمه إلا بالحنث، فإن طلق في الحال وإلا لزمته الكفارة، وحق العبارة التعبير باللام لدلالتها على الاتصال كما يقتضيه الحال بخلاف "إلى" فإنها تدل على مهلة وتراخ، هذا في الظهار المطلق، وأما الموقت بيوم أو شهر أو نحو ذلك فلا يكون عائداً فيه إلا بالوطء في الوقت المظاهر فيه، وأما مجرد إمساكها فليس بعود لأنه إنما أمسكها لما له فيها من الحل بعد وقت الظهار.
ولما كان المبتدأ الموصول مضمناً معنى الشرط، أدخل الفاء في خبره ليفيد السببية فيتكرر الوجوب بتكرر سببه فقال: { فتحرير } أي فعليهم بسبب هذا الظهار والعود تحرير { رقبة } أي سليمة عن عيب يخل بالعمل كاملة الرق مقيدة أيضاً بمؤمنة لأنها قيدت بذلك في كفارة القتل، فيحمل هذا على ذاك، ولأن معاوية بن الحكم رضي الله عنه كانت له جارية فقال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم:
"عليّ رقبة أفأعتقها، فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله فأخبرته بما دل على توحيدها فقال: من أنا؟ فقالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة" رواه مالك ومسلم، فعلل الإجزاء بالإيمان ولم يسأله عن سبب الوجوب، فدل على أنه لا فرق بين واجب وواجب، والموجب للكفارة الظهار والعود جميعاً كما أن الموجب في اليمين اليمين والحنث معاً.
ولما كان التحرير لا يستغرق زمن القبل بل يكون في بعضه، أدخل الجار فقال: { من قبل } ولما كان المراد المس بعد المظهارة لا مطلقاً قال: { أن يتماسا } أي يتجدد منهما مس وهو الجماع سواء كان ابتداء المباشرة منه أو منها بما أفادته صيغة التفاعل، وهو حرام قبل التكفير ولو كان على أدنى وجوه التماس وأخفاها بما أشار إليه الإدغام ولو كان بإيلاج الحشفة فقط مع الإنزال أو بدونه، وأما مقدمات الجماع فهي فيها كالحائض لا تحرم على الأظهر، فإن جامع عصى ولم تجب كفارة أخرى، لما روى الترمذي عن سلمة بن صخر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في المظاهر يواقع قبل أن يكفر، قال:
"كفارة واحدة
"
. ولما كان الوعظ هو الزجر عن الفعل الموعوظ لأجله، قال مستأنفاً: { ذلكم } أي الزجر العظيم جد الذي هو عام لكم من غير شبهة { توعظون به } أي يكون بمشقة زاجراً لكم عن العود إلى مقاربة مثل ذلك فضلاً عن مقارفته لأن من حرم من أجلها الله تحريماً متأبداً على زعمه كان كأنه قد قتلها، ولكون ذلك بلفظ اخترعه وانتهك فيه حرمة أمه كان كأنه قد عصى معصية أوبق بها نفسه كلها إيباقاً أخرجه إلى أن يقتلها عضواً عضواً بإعتاق رقبة تماثل رقبته ورقبة من كان قتلها.
ولما كان التقدير: فالله بما يردعكم بصير، عطف عليه قوله: { والله } أي الذي له الإحاطة بالكمال، وقدم الجار إشارة إلى إرادة المبالغة للتنبيه على الاهتمام بإلزام الانتهاء. عن ذلك فقال: { بما تعملون } أي تجددون فعله { خبير * } أي عالم بظاهره وباطنه، فهو عالم بما يكفره، فافعلوا ما أمر الله به وقفوا عند حدوده، قال القشيري: والظهار - وإن لم يكن له في الحقيقة أصل ولا بتصحيحه نطق ولا له شرع، بعد ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ولوح بشيء ما وقال: إنه حكمه لا يخل الله من بيان ساق إليه شرعه فقضى فيه بما انتظم فيه الجواب ارتفاع شكواها.
ولما كانت الكفارة مرتبة، وكان المظاهر كأنه قد قتل نفسه بقتل المظاهر عنها كما مضى، فكان مفتقراً إلى ما يحيي نفسه فشرع له العتق الذي هو كالإحياء، شرع له عند العجز عنه ما يميت نفسه التي إماتتها له إحياؤها، وكان الشهران نصف المدة التي ينفخ فيها الروح، فكان صومها كنصف قتل النفس التي قتلها إحياء الروح وإنعاش العقل، فكان كأنه إماتتها فجعله سبحانه بدلاً عن القتل الذي هو كالإحياء فقال: { فمن لم يجد } أي الرقبة المأمور بها بأن كان فقيراً، فإن كان غنياً وماله غائب فهو واجد { فصيام } أي فعليه صيام { شهرين }. ولما كان المراد كسر النفس كما مضى، وكانت المتابعة أنكى ولذلك سمي رمضان شهر الصبر، قيد بقوله: { متتابعين } أي على أكمل وجوه التتابع على حسب الإمكان بما أشار إليه الإظهار، فلو قطع التتابع بشيء ما ولو كان بنسيان النية وجب عليه الاستئناف والإغماء لا يقطع التتابع لأنه ليس في الوسع وكذا الإفطار بحيض أو نفاس أو جنون بخلاف الإفطار بسفر أو مرض أو خوف على حمل أو رضيع لأن الحيض معلوم فهو مستثنى شرعاً، وغيره مغيب للعقل - مزيل للتكليف، وأما المرض ونحوه ففيه تعمد الإفطار مع وجود العقل.
ولما كان الإمساك عن المسيس قد يكون أوسع من الشهرين، أدخل الجار فقال: { من قبل } وحل المصدر إفادة لمن يكون بعد المظاهرة فقال: { أن يتماسا } فإن جامع ليلاً عصى ولم ينقطع التتابع. ولما كان إطعام نفس قوت نصف يوم كإماتة نفسه بالصيام يوماً قال تعالى: { فمن لم يستطع } أي يقدر على الصيام قدرة تامة - بما أشار إليه إظهار التاء لهرم أو مرض أو شبق مفرط يهيجه الصوم { فإطعام } أي فعليه إطعام { ستين مسكيناً } لكل مسكين ما يقوته نصف يوم، وهو مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم وذلك نحو نصف قدح بالمصري، وهو ملء حفنتين بكفي معتدل الخلق من غالب قوت البلد، وهو كما في الفطرة سواء، وحذف قيد المماسة لذكره في الأولين، ولعل الحكمة في تخصيص هذا به أن ذكره في أول الخصال لا بد منه، وإعادته في الثاني لطول مدته فالصبر عنه فيها مشقة، وهذا يمكن أن يفعل في لحظة لطيفة لا مشقة للصبر فيها عن المماسة، هذا إذا عاد، فإن وصل الظهار بالطلاق أو مات أحدهما في الحال قبل إمكان الطلاق فلا كفارة، قال البغوي: لأن العود في القول هو المخالفة، وفسر ابن عباس رضي الله عنهما العود بالندم فقال: يندمون ويرجعون إلى الألفة، وهذا يدل على ما قال الشافعي رضي الله عنه: فإن ظاهر عن الرجعية انعقد ظهاره فإن راجعها لزمته الكفارة لأن الرجعة عود.
ولما ذكر الحكم، بين علته ترغيباً فيه فقال: { ذلك } أي الترخيص العظيم لكم والرفق بكم والبيان الشافي من أمر الله الذي هو موافق للحنيفية السمحة ملة أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان { لتؤمنوا } أي وهذا الفعل العظيم الشاق ليتجدد إيمانكم ويتحقق وجوده { بالله } أي الملك الذي لا أمر لأحد معه فتطيعوه بالانسلاخ من فعل الجاهلية { ورسوله } الذي تعظيمه من تعظيمه وقد بعث بملة أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فلو ترك هذا الحكم الشديد على ما كان عليه في الجاهلية لكان مشككاً في البعث بتلك الملة السمحة.
ولما رغب في هذا الحكم، رهب من التهاون به فقال: { وتلك } أي هذه الأفعال المزكية وكل ما سلف من أمثالها في هذا الكتاب الأعظم { حدود الله } أي أوامر الملك الأعظم ونواهيه وأحكامه التي يجب امتثالها والتقيد بها لترعى حق رعايتها فالتزموها وقفوا عندها ولا تعتدوها فإنه لا يطاق انتقامه إذا تعدى نقضه أو إبرامه. ولما كان التقدير: فللمؤمنين بها جنات النعيم، عطف عليه قوله { وللكافرين } أي العريقين في الكفر بها أو بشيء من شرائعه { عذاب أليم * } بما آلموا المؤمنين به من الاعتداء.