التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
١١
لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ
١٢
لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ
١٣
لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ
١٤
-الحشر

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما دل على أن هذا الثناء للصادقين في الإيمان بإقامة السنة بالهجرة والإيثار والاجتهاد في الدعاء لمن تبين الإيمان فسهل به طريق الأمان، فأخرج ذلك المنافقين وأفهم أنهم لا يفعلون ذلك لأنهم لا رسوخ لهم في الإيمان الحامل على ذلك، دل على نفاقهم الموجب لكذبهم بقوله متمماً للقصة مخاطباً لأعلى الخلق إشارة إلى أنه لا يطلع على نفاقهم لما لهم فيه من دقة المكر حق الاطلاع غيره صلى الله عليه وسلم معجباً من حالهم في عدم رسوخهم مع ما يرون من المعجزات والآيات البينات ويرون من حال المؤمنين من إسباغ الرحمة عليهم بتسهيل الأمور والنصرة على الجبابرة والإعراض عن الدنيا مع الإقبال على الآخرة والاجتهاد في الدين الذي هو وحده داع إلى الإيمان ومرقق للقلوب ومبين للحقائق غاية البيان: { ألم تر } أي تعلم علماً هو في قوة الجزم به كالمشاهد يا أعلى الخلق، وبين بعدهم عن جنابه العالي ومنصبه الشريف الغالي بأداة الانتهاء فقال تعالى: { إلى الذين نافقوا } أي أظهروا غير ما أضمروا، أظهروا الخير وبالغوا في إخفاء عقائدهم بالشر مبالغة من ساجل غيره، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه، قالوا: والنفاق لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبله، وهو استعارة من فعل الضب في نافقائه وقاصعائه، وصور حالهم بقوله: { يقولون لإخوانهم } أي من الموالاة بالضلالة.
ولما جمعهم في الكفر وإن افترقوا في المساترة والمجاهرة، وصف المجاهرين بنوع مساترة توجب النفرة منهم وتقضي بهلاك من صادقهم فقال: { الذي كفروا } أي غطوا أنوار المعارف التي دلتهم على الحق، وعينهم بما أبلغ في ذمهم من حيث إنهم ضلوا على علم فقال: { من أهل الكتاب } وهم بنو النضير هؤلاء، وبكتهم بكذبهم فيما أكدوا الموعد به لأنه في حيز ما ينكر من جهة أنهم لا يقدرون على المجاهرة بكفرهم فكيف بالمبارزة بالخلاف لقومهم الأنصار والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم في قولهم: { لئن أخرجتم } أي من مخرج ما من بلدهم الذي في المدينة الشريفة فخرجتم من غير أن تقاتلوا { لنخرجن معكم } فكان ما قضي به على إخوانهم من الإخراج فألاً وكل بمنطقهم.
ولما كان من المعلوم أن للمنافقين أقارب من أكابر المؤمنين، وكان من المعلوم - أنهم يقومون عليهم في منعهم من القيام معهم نصيحة لهم وإحساناً إليهم، وكان تجويز بني النضير موهناً لذلك، قالوا مؤكدين للكون معهم: { ولا نطيع فيكم } أي في خذلانكم، والمعنى أنه لو فرض أنه صار أحد في القرب منكم مثل قرب المظروف من الظرف ما أطعناه في التقصير فيما يسركم { أحداً } أي يسألنا خذلانكم من الرسول والمؤمنين، وأكدوا بقولهم: { أبداً } أي ما دمنا نعيش، وبمثل هذا العزم استحق الكافر الخلود الأبدي في العذاب.
ولما قدموا في معونتهم ما كان فألاً قاضياً عليهم، أتبعوه قولهم: { وإن قوتلتم } أي من أي مقاتل كان فقاتلتم ولم تخرجوا { لننصرنكم } فالآية من الاحتباك: ذكر الإخراج أولاً دليلاً على ضده ثانياً، والقتال ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً، ومعنى الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير:
"اخرجوا من بلدي ولا تساكنوني، قد هممتم بالغدر بن وقد أجلتكم عشراً، فمن رئي بعد لك منكم ضربت عنقه" فأرسل إليهم ابن أبي بما تقدم.
ولما كان قولهم هذا كلاماً يقضي عليه سامعه بالصدق من حيث كونه مؤكداً مع كونه مبتدأ من غير سؤال فيه، بين حاله سبحانه بقوله: { والله } أي يقولون ذلك والحال أن المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { يشهد } بما يعلم من بواطنهم في عالم الغيب. ولما كان بعض من يسمع قولهم هذا ينكر أن لا يطابقه الواقع، وكان إخلافهم فيه متحققاً في علم الله، أطلق عليه ما لا يطلق إلا على ما كشف الواقع عن أنه غير مطابق، فقال تشجيعاً للمؤمنين على قتالهم مؤكداً { إنهم } أي المنافقون { لكاذبون * } وهذا من أعظم دلائل النبوة لأنه إخبار بمغيب بعيدة عن العادة بشهادة ما ظننتم أن يخرجوا فحققه الله عن قريب.
ولما كان الكذب في قولهم هذا كونه إخباراً بما لا يكون، شرحه بقوله مؤكداً بأعظم من تأكيدهم: { لئن أخرجوا } أي بنو النضير من أي مخرج كان { لا يخرجون } أي المنافقون { معهم } أي حمية لهم لأسباب يعلمها الله { ولئن قوتلوا } أي اليهود من أي مقاتل كان فكيف بأشجع الخلق وأعلمهم صلى الله عليه وسلم { لا ينصرونهم } أي المنافقون ولقد صدق الله وكذبوا في الأمرين معاً: القتال والإخراج، لا نصروهم ولا خرجوا معهم، فكان ذلك من أعلام النبوة، وعلم به من كان شاكاً فضلاً عن الموقنين، صدق الكلام على ما لم يكن ولا ليكون لو كان كيف كان يكون بصدق الكلام على ما لم يكن ويكون كيف يكون إذا كان في قوله تعالى: { ولئن نصروهم } أي المنافقون في وقت من الأوقات { ليولن } أي المنافقون ومن ينصرونه، وحقرهم بقوله: { الأدبار } ولما كان من عادة العرب الكر بعد الفر، بين أنهم لا كرة لهم بعد هذه الفرة وإن طال المدى فقال: { ثم لا ينصرون * } أي لا يتجدد لفريقيهم ولا لواحد منهما نصرة في وقت من الأوقات، وقد صدق سبحانه لم يزل المنافقون واليهود في الذل ولا يزالون.
ولما كان ربما قيل: إن تركهم لنصرهم إنما هو لخوف الله أو غير ذلك مما يحسن وقعه، علل بما ينفي ذلك ويظهر أن محط نظرهم المحسوسات كالبهائم فقال مؤكداً له لأجل أن أهل النفاق ينكرون ذلك وكذا من قرب حاله منهم: { لا أنتم } أيها المؤمنون { أشد رهبة } أي من جهة الرهبة وهو تمييز محول عن المبتدأ أي لرهبتكم الكائنة فيهم أشد وأعظم { في صدورهم } أي اليهود ومن ينصرهم مما أفاض إليها من قلوبهم { من الله } أي من رهبتهم التي يظهرونها لكم منه وإن ذكروه بكل صفة من صفاته فرهبتهم منكم بسبب لإظهارهم أنه يرهبون الله رياء لكم.
ولما كان هذا مما يتعجب منه المؤمن علله بقوله: { ذلك } أي الأمر الغريب وهو خوفهم الثابت اللازم من مخلوق مثلهم ضعيف يزينهم له وعدم خوفهم من الخالق على ما له من العظمة وذاته ولكونه غنياً عنهم { بأنهم قوم } أي على ما لهم من القوة { لا يفقهون * } أي لا يتجدد لهم بسبب كفرهم واعتمادهم على مكرهم في وقت من الأوقات فهم يشرح صدورهم ليدركوا به أن الله هو الذي ينبغي إن يخشى لا غيره، بل هم كالحيوانات لا نظر لهم إلى الغيب إنما هم مع المحسوسات، والفقه هو العلم بمفهوم الكلام ظاهره الجلي وغامضه الخفي بسرعة فطنة وجودة قريحة.
ولما أخبر برهبتهم دل عليها بقوله: { لا يقاتلونكم } أي كل من الفريقين اليهود والمنافقين أو أحدهما. ولما كان الشيء قد يطلق ويراد بعضه، حقق الأمر بقوله: { جميعاً } أي قتالاً يقصدونه مجاهرة وهم مجتمعون كلهم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن { إلا في قرى محصنة } أي ممنعة بحفظ الدروب وهي السكك الواسعة بالأبواب والخنادق ونحوها { أو من وراء جدر } أي محيط بهم سواء كان بقرية أو غيرها لشدة خوفهم، وقد أخرج بهذا ما حصل من بعضهم عن ضرورة كاليسير، ومن كان ينزل من أهل خيبر من الحصن يبارز ونحو ذلك، فإنه لم يكن عن اجتماع، أو يكون هذا خاصاً ببني النضير في هذه الكرة.
ولما كان ربما ظن أن هذا عن عجز منهم لازم لهم دفعه بقوه إعلاماً بأنه إنما هو من معجزات هذا الدين: { بأسهم } أي قوتهم ما فيهم من الصفات التي يتأثر عنها العذاب { بينهم شديد } أي إذا أداروا رأياً أو حارب بعضهم بعضاً فجرأ المؤمنين عليهم بأن ما ينظرونه من شدتهم وشجاعتهم إذا حاربوا المشركين لا ينكر عند محاربة المؤمنين كرامة أكرم الله بها المؤمنين تتضمن علماً من أعلام النبوة تقوية لإيمانهم وإعلاء لشأنهم.
ولما كانت علة الشدة الاجتماع، شرح حالتي الشدة والرهبة بقوله مخاطباً للنبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى شدة ما يظهرون من ألف بعضهم لبعض: { تحسبهم } أي اليهود والمنافقين يا أعلى الخلق ويا أيها الناظر من كان ذلك التعاطف الظاهر { جميعاً } لما هم فيه من اجتماع الدفاع وعن ذلك نشأت الشدة { وقلوبهم شتى } أي مفترقة أشد افتراق، وعن ذلك نشأت الرهبة، وموجب هذا الشتات اختلاف الأهواء التي لا جامع لها من نظام العقل كالبهائم وإن اجتمعوا في عداوة أهل الحق كاجتماع البهائم في الهرب من الذئب، قال القشيري: اجتماع النفوس مع تنافر القلوب واختلافها أصل كل فساد وموجب كل تخاذل، ومقتض لتجاسر العدو، واتفاق القلوب والاشتراك في الهمة والتساوي في القصد يوجب كل ظفر وكل سعادة.
ولما كان السبب الأعظم في الافتراق ضعف العقل، قال معللاً: { ذلك } أي الأمر الغريب من الافتراق بعد الاتفاق الذي يخيل الاجتماع { بأنهم قوم } أي مع شدتهم { لا يعقلون * } فلا دين لهم يجمعهم لعلمهم أنهم على الباطل فهم أسرى الأهوية، والأهوية في غاية الاختلاف، فالعقل مدار الاجتماع كما كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما أن الهوى مدار الاختلاف.