التفاسير

< >
عرض

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ
٢
-الحشر

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

لما ختمت المجادلة بأنه معز أهل طاعته، ومذل أهل معصيته ومحادته، علله بتنزهه عن النقائص تأييداً للوعد بنصرهم فقال: { سبح } أي أوقع التنزيه الأعظم عن كل شائبة نقص { لله } الذي أحاط بجميع صفات الكمال.
ولما كان الكفار من جميع بني آدم قد عبد بعضهم الشمس وبعضهم القمر وبعضهم غيرهما من الكواكب، وكانت الكواكب مبثوثة في السماوات كلها لا تخص سماء بعينها وكذا الملائكة، جمع دلالة على أن الكل عبيد فقال: { ما في السماوات } أي كلها. ولما كان الكلام في النهي عن موادة الذي يحادون الله، وكان ذلك لمن دون الخلص، أكد بإعادة النافي لاحتياجهم للتأكيد فقال: { وما } ولما كان جميع ما عبدوه ما أشركوا به من الأرضيات من شجر وصنم وبقر وغيرها لا يعد والأرض التي هم عليها، أفرد فقال: { في الأرض }.
ولما شمل هذا جميع العالم، أشار إلى أن عظمته لا تنتهي فقال: { وهو } أي والحال أنه وحده { العزيز } الذي يغلب كل شيء ولا يمتنع عليه شيء { الحكيم * } الذي نفذ علمه في الظواهر والبواطن وأحاط بكل شيء فأتقن ما أراد، فكل ما خلقه جعله على وحدانيته دليلاً، وإلى بيان ما له من العزة والحكمة سبيلاً.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لا خفاء باتصال أيها بما تأخر من آي سورة المجادلة، ألا ترى أن قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم } إنما يراد به يهود فذكر سبحانه سوء سريرتهم وعظيم جرأتهم ثم قال في آخر السورة { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } فحصل من هذا كله تنفير المؤمنين عنهم وإعلامهم بأن بغضهم من الإيمان وودهم من النفاق لقبيح ما انطووا عليه وشنيع ما ارتكبوه، فلما أشارت هذه الآي إلى ما ذكر أتبعت بالإعلام في أول سورة الحشر بما عجل لهم من هوانهم وإخراجهم من ديارهم وأموالهم وتمكين المسلمين منهم، جرياً على ما تقدم الإيماء إليه سوء مرتكبهم، والتحمت الآي باتحاد المعنى وتناسبه، وتناسج الكلام، وافتتحت السورة بالتنزيه لبنائها على ما أشار إليه غضبه تعالى عليهم إذ لا يكون إلا على أعظم جريمة وأسوأ مرتكب وهو اعتداؤهم وعصيانهم المفصل في مواضع من الكتاب وقد قال تعالى فيهم بعد ذكر غضبه عليهم
{ أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل } [المائدة: 60] وقال تعالى: { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } [المائدة: 78] فبين تعالى أن لعنته إياهم إنما ترتبت على عصيانهم واعتدائهم، وقد فصل اعتداءهم أيضاً في مواضع، فلما كان الغضب مشيراً إلى ما ذكر من عظيم الشرك، أتبعه سبحانه وتعالى تنزيه نفسه جل وتعالى فقال: { سبح لله ما في السماوات وما في الأرض } وإنما يرد مثله من التنزيه أثر جريمة تقع من العباد وعظيمة يرتكبونها وتأمل ذلك حيث وقع، ثم عاد الكلام إلى الإخبار بما فعل تعالى بأهل الكتاب مما يتصل بما تقدم، ثم تناسجت الآي - انتهى.
ولما نزه نفسه الأقدس دل على ذلك التنزه على العزة والحكمة بدليل شهودي من أنه أنفذ ما كتب من أنه يغلب هو ورسله ومن أنه كبت الذين حادوه وخيب ظن الذين نافقوا، فتولوا اليهود من أهل الكتاب ليعتزوا بهم، فأذل اليهود وطردهم من مهبط الوحي وأخزى المنافقين الذين جعلوهم محط اعتمادهم وموضع ولايتهم وودادهم، فقال: { هو } أي وحده من غير إيجاف خيل ولا ركاب { الذي أخرج } على وجه القهر { الذين كفروا } أي ستروا ما في كتبهم من الشواهد التي تشهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه النبي الخاتم وما في فطرهم الأولى من أن اتباع الحق أحق، وقبح عليهم كفرهم بقوله موضع { من بني النضير } أو { اليهود } مثلاً: { من أهل الكتاب } أي الذي أنزله الله على رسوله موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم، وفي التعبير بـ { كفروا } إشعار بأنهم الذين أزالوا بالتبديل أو الإخفاء ما قدروا عليه مما بقي من التوراة دالاًّ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولما كان الوطن عديل الروح لأنه للبدن كالبدن للروح، فكان الخروج منه في غاية العسر، دل على مزيد قهرهم به بأن قال: { من ديارهم } ولما كان كان منهم من جلا من المدينة الشريفة إلى خيبر، وهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب ولحق سائرهم بأريحا من أرض الشام أرض المحشر، ولحق بعضهم بالحيرة، لوح إلى فتح خيبر وحشرهم منها حشراً ثانياً بقوله معللاً أو موقتاً: { لأول } أي لأجل أول أو عند أول { الحشر } وفي ذلك إشارة إلى أن كل بلد حشروا إليه سيفتح، ويزلزلون منه زلزلة أخرى، لا تزال مصائبهم بأهل الإسلام قائمة حتى يكون الحشر الأعظم بالقيامة، والحشر: الجمع من مكان والسوق إلى غيره بكره، وسمي أولاً لأنهم أول من أجلي من اليهود من جزيرة العرب، والحشر الثاني لهم من خيبر على زمن عمر رضي الله عنه، وعند ابن إسحاق أن إجلاءهم في مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد وفتح قريظة في مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:
"اخرجوا قالوا: إلى أين، قال: إلى أرض المحشر" ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من شك أن المحشر بأرض الشام فليقرأ هذه الآية. انتهى، وهذا الحشر يدل على المحشر الأعظم وبينه على قوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهاتين" .
ولما كان قد أخبر أن حشرهم لم يكن بسبب غير محض قدرته، استأنف شرح ذلك بقوله: { ما ظننتم } أي أيها المؤمنون { أن يخرجوا } أي يوقعوا الخروج من شيء أورثتموه منهم لما كان لكم من الضعف ولهم من القوة لكثرتهم وشدة بأسهم وشكيمتهم وقرب بني قريظة منهم فكانوا بصدد مظاهرتهم، وأهل خيبر أيضاً غير بعيدين عنهم وكلهم أهل ملتهم، والمنافقون من أنصارهم وأسرتهم، فخابت ظنونهم في جميع ذلك وفالت أراؤهم وسلط عليهم المؤمنون على قلتهم وضعفهم، وإذا أراد الله نصر عبد استأسد أرنبه وإذا أراد قهر عدو استنوق أسده.
ولما كانت الحصون تمنع إلى إتيان الأمداد قال: { وظنوا أنهم } ودل على قوة ظنهم وثباته بالجملة الاسمية فقال: { مانعتهم حصونهم } أي ثابت لها المنع ولهم الامتناع، قالوا: وفي تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، وفي جعل ضميرهم اسم (إن) وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عز ومنعة لا مطمع معها في معازّتهم، ودل على ضعف عقولهم بأن عبر عن جنده باسمه وباسمه الأعظم فقال: { من الله } أي الملك الأعظم الذي لا عز إلا له وأنتم جنده، لا تقاتلون إلا فيه وبه، بأسكم من بأسه، فقد اجتمع الظنان على شيء واحد. ولما كان إسناد ما للمضاف إلى المضاف إليه شائعاً في لسان العرب وكثيراً جداً لأنه لا يلتبس على من له إلمام بكلامهم، وبليغاً جداً لما له من العظمة، قال: { فآتاهم الله } أي جاءهم الملك الأعظم الذي يحتملون مجيئه بما صور لهم من حقارة أنفسهم التي اضطرتهم إلى الجلاء { من حيث لم يحتسبوا } أي من الجهة التي لم يحملوا أنفسهم على حسبها وهي خذلان المنافقين لهم رعباً كرعبهم واستضعافاً كاستضعاف أنفسهم عن مقاومة جند الله بعد أن كان الشيطان زين لهم غير ذلك، وملأ قلوبهم من الأطماع الفارغة حتى قطعوا بما مناهم وقربه لهم وأغواهم.
ولما كان التقدير: فأوهنهم الله بذلك، عطف عليه قوله: { وقذف } أي أنزل إنزالاً كأنه قذفه بحجارة، فثبت وارتكز { في قلوبهم الرعب } أي الخوف الذي سكنها فرضّها وملأها وعبر منها إلى جميع قواهم فاجتثها من أصلها، ثم بين حالهم عند ذلك أو فسر قذف الرعب بقوله: { يخربون بيوتهم } أي يبالغون - على قراءة أبي عمرو بالتشديد - في إخرابها، أي إفسادها، فإن الخربة الفساد، وقراءة غيره يفهم الفعل المطلق الذي لا ينافي المقيد { بأيديهم } ضعفاً منهم - بما أشار إليه جمع القلة، ويأساً من قوتهم ليأخذوا ما استحسنوا من آلاتها، فكان الرجل منهم لما تحملوا للرحيل يهدم بيته عن نجاف بابه وما استحسن من خشبه فيضعه على ظهر بعيره فيأخذه وينقب الجدار ويهدم السقف حسداً للمسلمين أن يسكنوها بعدهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يخلوا له عن البلد ولهم ما حملت إبلهم.
ولما كان السبب في تخريب الصحابة رضي الله عنهم لبيوتهم ما أحرقوهم به من المكر والغدر كانوا كأنهم أمروهم بذلك، فنابوا عنهم فيه، فقال أيضاً بجمع القلة للدلالة على أن الفعل له سبحانه وحده: { وأيدي المؤمنين } أي الراسخين في الإيمان استيلاء وغلبة عليهم وقد كان المؤمنون يخربون ما ضيق عليهم المجال منها لأجل القتال، وقدم تخريبهم لأنه أعجب.
ولما كان في غاية الغرابة أن يفعل الإنسان في نفسه كما يفعل فيه عدوه، سبب عن ذلك قوله: { فاعتبروا } أي احملوا أنفسكم بالإمعان في التأمل في عظيم قدرة الله تعالى على أن تعبروا من ظواهر العلم في هذه القضية بما دبر الله في إخراجهم إلى بواطن الحكمة بأن لا تعدوا لكم ناصراً نم الخلق ولا تعتمدوا على غير الله، فإن الاعتبار - كما قال القشيري - أحد قوانين الشرع، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره - انتهى. وقد احتج بالآية مثبتو القياس فإنه مجاوزة من الأصل إلى الفرع، والمجاوزة اعتبار، وهو مأمور به في هذه الآية فهو واجب.
ولما كان الاعتبار عظيم النفع، لا يحصل إلا للكمل، زاده تعظيماً بقوله تعالى: { يا أولي الأبصار * } بالنظر بأبصاركم وبصائركم في غريب هذا الصنع لتحققوا به ما وعدكم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من إظهار دينه وإعزاز نبيه ولا تعتمدوا على غير الله كما اعتمد هؤلاء على المنافقين، فإن من اعتمد على مخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره ومذلته، ولا تلموا بغدر كما أرادوا أن يغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوا عليه وهو قاعد بفناء دار من دورهم رحى من السطح ليقتلوه بها - زعموا، ولا تفعلوا شيئاً من قبيح أفعالهم لئلا يحصل لكم مثل نكالهم كما أحكمه قوله صلى الله عليه وسلم
"لتتبعن سنن من كان قبلكم" الحديث، وذلك الغدر منهم بعد أن حرضوا قريشاً على غزوة أحد ودلوهم على بعض العورات، وقال البغوي: إن كعب بن الأشرف أتى قريشاً بعد أحد في أربعين راكباً فحالفهم على النبي صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل عليه السلام عليه يخبره بذلك، وقال: إنه لما قصدهم عليه السلام أرسلوا إليه أن يخرج في ثلاثين ويخرج منهم ثلاثون ليسمعوا منه، فإن آمنوا به آمن الكل، فأجابهم فأرسلوا أن الجمع كثير فاخرج في ثلاثة ليخرج ثلاثة منا، فأرسلت امرأة منهم إلى أخيها وكان مسلماً أنهم اشتملوا على الخناجر يريدون الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فكف صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وكل ما ذكر من أسباب قصتهم كما ترى دائر على المكر بل هو عين المكر.