التفاسير

< >
عرض

فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٢٥
وَهَـٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
١٢٦
لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٢٧
-الأنعام

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما تقدم أنه تعالى أعلم بمن طبع على قلبه فلا ينفك عن الضلال، ومن يقبل الهداية في الحال أو المآل، وأن مكر المجرمين إنما هو بإرادته ونافذ قدرته، علم أن الأمر أمره، والقلوب بيده، فتسبب عن ذلك قوله: { فمن يرد الله } أي الذي له جميع الجلال والإكرام { أن يهديه } أي يخلق الهداية في قلبه من أكابر المجرمين أو غيرهم { يشرح صدره } أي يوسعه بأن يجعله مهيئاً قابلاً بالنور { للإسلام } قال الإمام أبو جعفر النحاس: روي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "يا رسول الله! وهل ينشرح الصدر؟ فقال: نعم، يدخل القلب نور، فقال: وهل لذلك من علامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل الموت" ، وفي رواية: الفوت { ومن يرد } أي الله، ولم يظهر هنا إشارة إلى أن الضلال على مقتضى الطبع { أن يضله } أي يخلق الضلال ويديمه في قلبه { يجعل صدره } أي الذي هو مسكن قلبه الذي هو معدن الأنوار { ضيقاً حرجاً } أي شديد الضيق فيكون مرتجساً أي مضطرباً، روي أن عمر رضي الله عنه أحضر أعرابياً من كنانة من بني مدلج فقال له: ما الحرجة؟ فقال: شجرة لا تصل إليها وحشية ولا راعية، وساق البغوي القصة ولفظه: وقال: الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية لا وحشية ولا شيء - ثم اتفقا - فقال عمر رضي الله عنه: كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الإيمان و الخير؛ وزاد البغوي: يقال سيبويه: الحرج - بالفتح المصدر، ومعناه: ذا حرج، وبالكسر الاسم وهو أشد الضيق، وقال المهدوي: هنا الحرج الشديد الضيق وقد تقدم القول فيه، وقال في النساء في قوله تعالى { { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت } [النساء: 65] أي ضيقاً، وإلى هذا المعنى يرجع قول مجاهد: إنه الشك، وقول الضحاك: إنه الإثم، كأنه ضيق شك أو ضيق إثم؛ وقال النحاس: { حرجاً مما قضيت } أي شكاً وضيقاً، وأصل الحرج الضيق - انتهى. وتحقيق ذلك أن الآية هنا فيها - بعد التأكيد بالإتيان بصيغة فعيل دون فاعل - تأكيد أخر إما بالمصدر أو باسم الفاعل، فأفاد زيادة على أصل الفعل وهي الشدة فيه، فمعنى الفتح: ضيقاً - بكسر الضاد وإسكان الياء ومعناه - إن كسرتَ حرجاً - ضيقاً بإعادة اسم الفاعل، ومادة حرج بخصوص هذا الترتيب تدور على المكان الضيق الكثير الشجر، ويلزمه الشخوص على وجه الأرض والارتفاع والجمع والمنع والشدة والحيرة والحر والبرد، وهي - بأي ترتيب كان وهي خمسة: حرج جحر رجح حجر جرح - تدور على الحجر الذي هو الجسم المعروف، ويلزمه الثقل والمنع والحدة والشخوص والصلابة التي هي القسوة ويلزمها الضيق، فيرجع إلى الصلابة الحرجُ بمعنى الضيق، والحرجة للغيضة، ولحرج للقلادة من الودع، والحرجوج للريح الشديدة الباردة، والناقة الحرجوج للوقادة القلب، ويجوز رجوعها إلى الحدة، والجرح لسرير الموتى لضيق الصدر من ذكره، ولضيقه عن أسرّة الأحياء، ومنه أيضاً جحر الضب ونحوه للثقب المحتفر في الأرض، ويرجع إلى الثقل الحرجُ بمعنى الإثم، وينشأ عن ذلك البعث المفضي إلى الحيرة، ومنه حرجت عينه، أي حارت فلا تطرف، ويلزم الثقل أيضاً الجرحُ بمعنى الطعن النافذ في البدن، ومن ذلك اجترح - إذا اكتسب مالاً، لأنه من آثاره، ومنه الرجحان بمعنى الثقل، والحكم الراجح الذي يوجب رزانة صاحبه، ومنه الأرجوحة لأن كلاًّ من طرفيها يرجح بالآخر، ويرجع إلى المنع الحجرُ بمعنى العقل وبمعنى الحضن والحرام والفرس الأنثى لأنها قد تمنع من الركوب للحمل أو الولد، والحجر في المال، والحجرة للناحية القريبة لأن الشيء إذا بعد عنك - ولو قدر باع - امتنع منك، وكان التأنيث فيه لقربه، ويرجع إلى الشخوص الحرجُ للناقة الطويلة؛ وقال الإمام أبو الفتح بن جنيرحمه الله في كتابه "المحتسب في توجيه القراءات الشواذ" عند قوله تعالى في هذه السورة "وحرث حرج" فيمن قرأ بتقديم الراء: إن جميع تراكيب هذه المادة الخمسة تلتقي معانيها في الضيق والشدة والاجتماع، وإذا أنعمت النظر وتركت الملل والضجر وجدت الأمر كما قال - والله أعلم - نحو الحجر واستحجر الطين والحجرة وبقيته، وكله إلى التماسك والضيق، ومنه الحرج للضيق والجرح مثله، والحرجة ما التف من الشجر فلم يمكن دخوله، ومنه الحجر وبابه لضيقه، ومنه الجرح لمخالطة الحديد للحم وتلاحمه عليه، ومنه رجح الميزان - لأنه مال أحد شقيه نحو الأرض فقرب منها وضاق ما كان واسعاً بينه وبينها، فإن قلت: فإنه إذا مال أحدهما إلى الأرض فقد بعد الآخر؟ قيل: كلامنا على الراجح والراجح هو الذي إلى الأرض، فأما الآخر فلا يقال له: راجح، وإذا ثبت ذلك - وقد ثبت - فكذلك قوله تعالى { وحرث حجر } في معنى حجر، معناه عندهم أنها ممنوعة محجورة لن يطعمها إلاّ من يسألون أن يطعموه إياها بزعمهم - انتهى.
ولما كان صاحب هذا الصدر لا يكاد الهداية تصل إليه، وإن وصل إليه شيء منها على لسان واعظ ومن طريق مرشد ناصح لم تجد مسلكاً فنكصت، وهكذا لا تزال في اضطراب وتردد أبداً؛ كانت ترجمته قوله: { كأنما يصعد } أي يتكلف هذا الشخص في قبول الهداية الصعود { في السماء } في خفاء حياء من مزاولة ما لا يمكن، بما أشار إليه قراءة من أدغم التاء في الصاد، فكلما أصعدته حركته الاختيارية أهبطته حركته الطبيعية القسرية، كما نرى بعض الحشرات يحمل شيئاً ثقيلاً ويصعد به في جدار أملس، فيصير يتكلف ذلك فيقع، ثم يتكلف الصعود ايضاً فربما وصل إلى مكانه الأول وسقط، وربما سقط دونه، فهو مما يمتنع عادة، فلا يزال مرتجساً أي مضطرباً ومجامع الاضطراب عقبه بما بعده كما يأتي.
ولما كان ما وصف به صدر الضال مما ينفر منه، وكان الرجس في الأصل لما يستقذر، والمستقذر ينفر منه، وكان هذا الكلام ربما أثار سؤالاً، وهو أن يقال: هل هذا - وهو جعل الضال على هذه الصفة - خاص بأهل هذا الزمان، أجيب بما حاصله: لا، { كذلك } أي مثل ما جعل الله الرجس على من أراد ضلاله من أهل هذا الزمان { يجعل الله } أي بما له من القدرة التامة والعظمة الباهرة { الرجس } أي الاضطراب والقذر { على الذين لا يؤمنون } من أهل كل زمان لإرادته سبحانه دوام ضلالهم، فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً الضلال دليلاً على حذفه ثانياً، وذكر الرجس ثانياً دليلاً على حذفه أولاً، والآية نص في أن الله يريد هدى المؤمن وضلال الكافر.
ولما ذكر ما ألزمه لأهل الضلال بلفظ ما يستقذر، كان في غاية الحسن تعقيبه بالصراط، فإنه مما يعشق لاستقامته وإضافته إلى الرب الذي له - مع استجماع الكمالات كلها - صفة العطف والإحسان واللطف، وإضافة الرب إلى هذا الرسول الذي يعشق خلقه وخلقه كلُ من يراه أو يسمع به، وأحسن من ذلك وأمتن أن مادة "رجس" تدور على الاضطراب الملزوم للعوج الملزوم للضلال المانع من الإيمان، فلما مثل سبحانه حال الضال بحال المضطرب، وأخبر أنه ألزم هذا الاضطراب كل من لا يؤمن، أتبعه وصف سبيله بالاستقامة التي هي أبعد شيء عن الاضطراب الملزوم للعوج، وكان التقدير: فهذا حال أهل الضلال، فعطف عليه قوله: { وهذا } أي الذي ذكرناه من الشرائع الهادية في هذا القرآن التي ختمناها بأن الهادي المضل هو الله وحده، لا الإتيان بالمقترحات ولو جاءت كل آية { صراط } أي طريق { ربك } أي المحسن إليك حال كون هذا الصراط { مستقيماً } أي لا عوج فيه أصلاً، بل هو على منهاج الفطرة الأولى التي هي في أحسن تقويم بالعقل السليم الذي لم يشبه هوى ولم يشبه خلل في أن الأمر كله بيد الله لكيلا يزال الإنسان خائفاً من الله وراجياً له لأنه القادر على كل شيء، وأما غيره فلا قدرة له إلاّ بتقديره لأنه خلق القوى والقدر عندنا وعند المعتزلة، فلتكن الجزئيات كذلك لأن الخلق لا يتصور بغير علم، وليس غير الله محيط العلم؛ قال الإمام: فالآية التي قبلها من المحكمات، فيجب إجراؤها على ظاهرها، ويحرم التصرف فيها بالتأويل.
ولما كان جميع ما في هذا الصراط على منهاج العقل ليس شيء منه خارجاً عنه وإن كان فيه ما لا يستقل بإدراكه العقل، بل لا بد له فيه من إرشاد الهداة من الرسل الآخذين على الله، قال مبيناً لمدحه مرشداً إلى انتظامه مع العقل: { قد فصلنا } أي غاية التفصيل بما لنا من العظمة { الآيات } أي كلها فصلاً فصلاً بحيث تميزت تميزاً لا يختلط واحد منها بالآخر { لقوم يذكرون } أي يجهدون أنفسهم في التخلص من شوائب العوائق للعقل من الهوى وغيره - ولو على أدنى وجوه الاجتهاد بما يشير إليه الإدغام - ليذكروا أنه قال: ما من شيء ذكرناه إلاّ وقد أودعنا في عقولهم شاهداً عليه.
ولما كان التذكر - عند الآيات لا يكون إلاّ من أهل العنايات في طرق الهدايات، قال مرغباً في التذكر فإنه سبب الفيض الإلهي على القلوب المهيأة له: { لهم } أي المتذكرين { دار السلام } أي الجنة، أضافها سبحانه إليه زيادة في الترغيب فيها، وخص هذا الاسم الشريف لأنه لا يلم بها شيء من عطب ولا خوف ولا نصب؛ ثم زاد الترغيب فيها بقوله: { عند ربهم } أي في ضمان المحسن إليهم وحضرته بما هيأهم له ويسره لهم { وهو } أي وحده { وليهم } أي المتكفل بتولي أمورهم، لا يكلهم إلى أحد سواه، وهذا يدل على قربه منهم، والعندية تدل على قربهم منه لما شرح من صدورهم بالتوحيد؛ ولما كان ذلك ربما قصر على التذكر، بين أن المراد منه التأدية إلى الأعمال فإنها معيار الصدق وميزانه فقال: { بما } أي بسبب ما { كانوا } أي كما جبلهم عليه، فما كان ذلك إلاّ بفضله { يعملون }.