التفاسير

< >
عرض

وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي ٱلأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي ٱلسَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَٰهِلِينَ
٣٥
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
٣٦
وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٣٧
-الأنعام

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما سلاه بما هو في غاية الكفاية في التسلية، أخبره بأنه لا حيلة له غير الصبر، فقال عاطفاً على ما تقديره: فتسلّ واصبر كما صبروا، وليصغر عندك ما تلاقي منهم في جنب الله: { وإن كان كبر } أي عظم جداً { عليك إعراضهم } أي عما يأتيهم به من الآيات الذي قدمنا الإخبار عنه بقولنا { { وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين } [الأنعام: 4] وأردت أن تنتقل - في إخبارنا لك بأنه لا ينفعهم الآيات المقترحات - من علم اليقين إلى عين اليقين { فإن استطعت أن تبتغي } أي تطلب بجهدك وغاية طاقتك { نفقاً } أي منفذاً { في الأرض } تنفذ فيه إلى ما عساك تقدر على الانتهاء إليه { أو سلماً في السماء } أي جهة العلو لترتقي فيه إلى ما تقدر عليه { فتأتيهم بآية } أي ما اقترحوا عليك فافعل لتشاهد أنهم لا يزدادون عند إتيانك بها إلا إعراضاً كما أخبرناك، لأن الله قد شاء ضلال بعضهم، والمراد بهذا بيان شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على هدايتهم بأنه لو قدر على أن يتكلف النزول إلى تحت الأرض أو فوق السماء فيأتيهم بما يؤمنون به لفعل.
ولما كان هذا السياق ربما أوهم شيئاً في القدرة، نفاه إرشاداً إلى تقدير ما قدرته فقال: { ولو شاء الله } أي الذي له العظمة الباهرة والقدرة الكاملة القاهرة { لجمعهم على الهدى } أي لأن قدرته شاملة، وإيمانهم في حد ذاته ممكن، ولكنه قد شاء افتراقهم بإضلال بعضهم؛ ولما كان صلى الله عليه وسلم - بعد إعلام الله له بما أعلم من حكمه بأن الآيات لا تنفع من حتم بكفره - حريصاً على إجابتهم إلى ما يقترحونه رجاء جمعهم على الهدى لما طبع عليه من مزيد الشفقة على الغريب فضلاً عن القريب، مع ما أوصاه الله به ليلة الإسراء من غير واسطة - كما أفاده الحرالي - من إدامة الشفقة على عباده والرحمة لهم والإحسان إليهم واللين لهم وإدخال السرور عليهم، فتظافر على ذلك الطبع والإيصاء حتى كان لا يكف عنه إلا لأمر جازم أو نهي مؤكد صارم، سبب عن ذلك قوله: { فلا تكونن } فأكد الكلام سبحانه ليعلم صلى الله عليه وسلم أنه قد حتم بافتراقهم، فيسكن إلى ذلك ويخالف ما جبل عليه من شدة الشفقة عليهم { من الجاهلين * } أي إنك أعلم الناس مطلقاً ولك الفراسة التامة والبصر النافذ والفكرة الصافية بمن لم تعاشره، فكيف بمن بلوتهم ناشئاً وكهلاً ويافعاً! فلا تعمل بحجة ما أوصاك الله به من الصبر والصفح، وجبلك عليه من الأناة والحلم في ابتغاء إيمانهم بخلاف ما يعلم من خسرانهم، فلا تطمع نفسك فيما لا مطمع فيه، فإن ما شاءه لا يكون غيره، فهذه الآية وأمثالها - مما في ظاهره غلظة - من الدلالة على عظيم رتبته صلى الله عليه وسلم ومن لطيف أمداح القرآن له - كما يبين إن شاء الله تعالى في سورة التوبة عند قوله تعالى
{ { عفا الله عنك } [التوبة: 43].
ولما أفهم هذا القضاء الحتم أنه قد صار حالهم حال من حتم بالموت، فلا يمكن إسماعه إلا الله، ولا يمكن أن يستجيب عادة، قال: { إنما يستجيب } أي في مجاري عاداتكم { الذين يسمعون } أي فيهم قابلية السمع لأنهم أحياء فيتدبرون حينئذ ما يلقى إليهم فينتفعون به، وهؤلاء قد ساووا الموتى في عدم قابلية السماع للختم على مشاعرهم { والموتى } أي كلهم حساً ومعنى { يبعثهم الله } أي الملك المحيط علماً وقدرة، فهو قادر على بعثهم بإفاضة الإيمان على الكافر وإعادة الروح إلى الهالك فيسمعون حينئذ، فالآية من الاحتباك: حذف من الأول الحياة لدلالة { الموتى } عليها، ومن الثاني السماع لدلالة { يسمعون } عليه.
ولما قرر أن من لا يؤمن كالميت، حثاً على الإيمان وترغيباً فيه، وقدر قدرته على البعث، خوَّفَ من سطواته بقوله: { ثم إليه } أي وحده { يرجعون * } أي معنى في الدنيا فإنه قادر على كل ما يشاء منهم، لا يخرج شيء من أحوالهم عن مراده أصلاً وحساً بعد الموت، فيساقون قهراً إلى موقف يفصل فيه بين كل مظلوم وظالمه.
ولما سلاه صلى الله عليه وسلم فيما أخبرته من أقوالهم بما شرح صدره وسر خاطره، وأعلمه تخفيفاً عليه أن أمرهم إنما هو بيده، ذكَّره بعضَ كلامهم الآئل إلى التكذيب عقب إخباره بالحشر الذي يجازي فيه كلاًّ بما يفعل، فقال عطفاً على قوله
{ { وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا } [الأنعام: 29] وقوله { { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } [الأنعام: 8] يعجب منه تعجيباً آخر: { وقالوا } أي مغالطة أو عناداً أو مكابرة { لولا } أي هلا { نزل } أي بالتدريج { عليه } أي خاصة { آية } أي واحدة تكون ثابتة بالتدريج لا تنقطع، وهذا منهم إشارة إلى أنهم لا يعدون القرآن آية ولا شيئاً مما رأوه منه صلى الله عليه وسلم من غير ذلك نحو انشقاق القمر { من ربه } أي المحسن إليه على حس ما يدعيه لنستدل بها على ما يقول من التوحيد والبعث.
ولما كان في هذا - كما تقدم - إشارة منهم إلى أنه لم يأت بآية على هذه الصفة إما مكابرة وإما مغالطة، أمره بالجواب بقوله: { قل إن الله } أي الذي له جميع الأمر { قادر على أن } وأشار بتشديد الفعل إلى آية القرآن المتكررة عليهم كل حين تدعوهم إلى المبارزة وتتحداهم بالمبالغة والمعاجزة فقال: { ينزل } وقراءة ابن كثير بالتخفيف مشيرة إلى أنهم بلغوا في الوقاحة الغاية، وأنهم لو قالوا: لولا أنزل، أي مرة واحدة، لكان أخف في الوقاحة، أو إلى أنه أنزل عليهم أيّ آية، كانت تلجئهم وتضطرهم إليه في آن واحد كما قال تعالى
{ { إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين } } [الشعراء: 4] ولكنه لا يسأل ذلك إلا بالتدريج كما يشير إليه صيغة التفعيل في قراءة غيره المذكرة بأن آية القرآن لا تنقضي، بل كلما سمعها أحد منهم أو من غيرهم طول الدهر كانت منزلة عليه لكونها واصلة إليه، فهو أبلغ من مطلوبهم آية ينزل عليه وحده، والحاصل أنهم طلبوا آية باقية محضة، فلوح لهم إلى آية هي - مع كونها خاصة به فيما حصل له من الشرف - عامة لكل من بلغته، باقية طول المدى { آية } أي مما اقترحوه ومن غيره، لا يعجزه شيء، وفي كل شيء له من الآيات ما يعجز الوصف، وكفى بالقرآن العظيم مثالاً لذلك { ولكن أكثرهم لا يعلمون * } أي ليس فيهم قابلية العلم، فهم لا يتفكرون في شيء من ذلك الذي يحدثه من مصنوعاته ليدلهم على أنه على كل شيء قدير، فلا فائدة لهم في إنزال ما طلبوه، وأما غير الأكثر فهو سبحانه يردهم بآية القرآن أو غيرها مما لم يقترحوه.