التفاسير

< >
عرض

وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
٥١
وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٥٢
وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ
٥٣
-الأنعام

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أمره بتوبيخهم، أمره - عاطفاً على قوله "قل" - بالإنذار على وجه مخز لهم أيضاً فقال: { وأنذر به } أي بما يوحى إليك، وليس المراد تخصيص الإنذار بالخائف، بل الإشارة إلى جلافتهم وعظيم بلادتهم وكثافتهم في عدم تجويز الجائز الذي هو أهل لأن يخافه كل واحد بقوله: { الذين يخافون } أي تجويزاً للجائز عقلاً وعادة.
ولما كان المرهوب الحشر نفسه، لا بقيد كونه من معين؛ بني للمفعول قوله { أن يحشروا } أي يجمعوا وهم كارهون { إلى ربهم } أي المحسن إليهم بالإيجاد والتربية مع التقصير في الشكر، حال كونهم { ليس لهم } وأشار إلى تحقير ما سواه وسفوله بالجار فقال: { من دونه } أي من المنزلة التي هي تحت منزلته، ومن المعلوم أن كل شيء تحت قهر عظمته ومتضائل عن رتبته، ليس لهم ذلك، أي على وجه الانفراد أو التوسل { ولي } يتولى أمورهم فينقذهم قهراً مما يخافون { ولا شفيع } ينقذهم بحسن سفارته وعظيم رتبته وترتيبه { لعلهم يتقون * } أي ليكون حالهم حال من يرجى أن يجعل بينه وبين عذاب الله وقاية.
ولما أمره بدعاء من أعرض عنه ومجاهرته، أمره بحفظ من تبعه وملاطفته، فقال: { ولا تطرد الذين يدعون } وهم الفقراء من المسلمين { ربهم } أي المحسن إليه عكس ما عليه الكفار في دعاء من لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً؛ ثم بين من حالهم من الملازمة ما يقتضي الإخلاص فقال: { بالغداة والعشي } أي في طرفي النهار مطلقاً أو بصلاتيهما أو يكون كناية عن الدوام؛ ثم أتبع ذلك نتيجته فقال معبراً عن الذات بالوجه، لأنه أشرف - على ما نتعارفه - وتذكّره يوجب التعظيم ويورث الخجل من التقصير: { يريدون وجهه } أي لأنه لو كان رياء لاضمحل على طول الزمان وتناوب الحدثان باختلاف الشأن.
ولما كان أكابر المشركين وأغنياؤهم قد وعدوه صلى الله عليه وسلم الاتباع إن طرد من تبعه ممن يأنفون من مجالستهم، وزهدوه فيهم بفقرهم وبأنهم غير مخلصين في اتباعه، إنما دعاهم إلى ذلك الحاجة؛ بين له تعالى أنه لا حظ له في طردهم ولا في اتباع أولئك بهذا الطريق إلا من جهة الدنيا التي هو مبعوث للتنفير عنها، فقال معللاً لما مضى أو مستأنفاً: { ما عليك } قدم الأهم عنده وهو تحمله { من حسابهم } وأغرق في النفي فقال: { من شيء } أي ليس لك إلا ظاهرهم، وليس عليك شيء من حسابهم، حتى تعاملهم بما يستحقون في الباطن من الطرد إن كانوا غير مخلصين { وما من حسابك } قدم أهم ما إليه أيضاً { عليهم من شيء } أي وليس عليهم شيء من حسابك فتخشى أن يحيفوا عليك فيه على تقدير غشهم، أو ليس عليك من رزقهم شيء فيثقلوا به عليك، وما من رزقك عليهم من شيء فيضعفوا عنه لفقرهم، بل الرازق لك ولهم الله؛ ثم أجاب النفي مسبباً عنه فقال: { فتطردهم } أي فتسبب عن أحد الشيئين طردك لهم ليقبل عليك الأغنياء فلا يكلفوك ما كان أولئك يكلفونك، وإن كلفتهم ما كان أولئك عاجزين عنه أطاقوه؛ والحاصل أنه يجوز أن يكون معنى جملتي { ما عليك من حسابهم } - إلى آخرهما راجعاً إلى آية الكهف
{ { ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا } [الكهف: 28] فيكون المعنى ناظراً إلى الرزق، يعني أن دعاءك إلى الله إنما مداره الأمر الأخروي، فليس شيء من رزق هؤلاء عليك حتى تستنفر بهم وترغب في الآغنياء، ولا شيء من رزقك عليهم فيعجزوا عنه، وفي اللفظ من كلام أهل اللغة ما يقبل هذا المعنى؛ قال صاحب القاموس وغيره: الحساب: الكافي ومنه { { عطاء حساباً } [النبأ: 36] وحسّب فلان فلاناً: أطعمه وسقاه حتى شبع وروي. وقال أبو عبيد الهروي: يقال: أعطيته فأحسبته، أي أعطيته الكفاية حتى قال: حسبي، وقوله { { يرزق من يشاء بغير حساب } [البقرة: 212] أي بغير تقتير وتضييق، وفي حديث سماك: ما حسبوا ضيفهم، أي ما أكرموه، وقال ابن فارس في المجمل: وأحسبته: أعطيته ما يرضيه، وحسّبته أيضاً، وأحسبني الشيء: كفاني.
ولما نهاه عن طردهم مبيناً أنه ضرر لغير فائدة، سبب عن هذا النهي قوله { فتكون من الظالمين * } أي بوضعك الشيء في غير محله، فإن طردك هؤلاء ليس سبباً لإيمان أولئك، وليس هدايتهم إلا إلينا، وقد طلبوا منا فيك لما فتناهم بتخصيصك بالرسالة ما لم يخف عليك من قولهم
{ { لولا أنزل عليه ملك } [الأنعام: 8] ونحوه مما أرادوا به الصرف عنك، فكما لم تقبلهم فيك فلا تقبلهم أنت في أوليائنا، فإنا فتناهم بك حتى سألوا فيك ما سألوا وتمنوا ما تمنوا { وكذلك } أي ومثل ما فتناهم بإرسالك { فتنا } أي فعلنا فعل المختبر قسراً بما لنا من العظمة { بعضهم ببعض } بالتخصيص بالإيمان والغنى والفقر ونحو ذلك { ليقولوا } أي إنكاراً لأن تفضل غيرهم عليهم احتقاراً لهم واستصغاراً { أهؤلاء } أي الذين لا يساووننا بل لا يقاربوننا في خصلة من خصال الدنيا { منَّ الله } أي على جلاله وعظمه { عليهم } أي وفقهم لإصابة الحق وما يسعدهم عنده وهم فيما نرى من الحقارة { من بيننا } فالآية ناظرة إلى ما يأتي في هذه السورة من قوله تعالى { { حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } [الأنعام: 124].
ولما كان الإنكار لا يسوغ إلاّ مع نهاية العلم بمراتب المفضلين، وأن المفضل لا يستحق التفضيل من الوجه المفضل به، أنكر إنكارهم بقوله: { أليس الله } أي الذي له جميع الأمر، فلا اعتراض عليه { بأعلم بالشاكرين * } أي الذين يستحقون أن يفضلوا لشكرهم على غيرهم لكفرهم.