التفاسير

< >
عرض

وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى ٱلْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ
١١
يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِٱللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَٰنٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُنَّ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٢
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ ٱلآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ ٱلْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْقُبُورِ
١٣
-الممتحنة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان المظنون بالكفار عدم العدل فلا يعطون المؤمنين مهور نسائهم الكافرات، قال مداوياً لذلك الداء: { وإن فاتكم } أي بالانفلات منكم بعد الهجرة أو بإدامة الإقامة في بلاد الحرب { شيء } أي قل أو كثر { من أزواجكم } أي من أنفسهن أو مهورهن { إلى } أي متحيزاً أو واصلاً إلى { الكفار } فعجزتم عنه { فعاقبتم } أي تمكنتم من المعاقبة بأن فات الكفار شيء من أزواجهم بالهجرة إليكم أو اغتنمتم من أزواج الكفار فجاءت نوبة ظفركم بأداء المهر إلى إخوانكم طاعة وعدلاً عقب نوبتهم التي اقتطعوا فيها ما أنفقتم عصياناً وظلماً { فآتوا } أي فاحضروا وأعطوا من مهر المهاجرة { الذين ذهبت أزواجهم } أي منكم إن اختاروا الأخذ { مثل ما أنفقوا } على الكافرة الفائتة إلى الكفار مما غنمتم من أموالهم أو بأن تدفعوا إليهم مثل مهر أزواجهم مما كنتم تعطونه لأزواج المهاجرات، فيكون ذلك جزاء وقصاصاً لما فعل الكفار.
ولما كان التجزي في مثل ذلك عسراً على النفس فإن المهور تتفاوت تارة وتتساوى تارة أخرى وتارة تكون نقوداً وتارة تكون عروضاً إلى غير ذلك من الأحوال مع أن المعامل عدو في الدين فلا يحمل على العدل فيه إلا خالص التقوى قال: { واتقوا } أي في الإعطاء والمنع وغير ذلك { الله } الذي له صفات الكمال وقد أمركم بالتخلق بصفاته على قدر ما تطيقون، ثم وصفه بما يؤكد صعوبة الأمر ويحث على العدل فقال ملهباً لهم كل الإلهاب هازاً لهم بالوصف بالرسوخ في الإيمان: { الذي أنتم به } أي خاصة { مؤمنون * } أي متمكنون في رتبة الإيمان.
ولما خاطب سبحانه المؤمنين الذي لهم موضع الذب والحماية والنصرة بما وطن به المؤمنات في دار الهجرة فوقع الامتحان وعرف الإيمان، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحكم بإيمانهن بمبايعتهن فقال { يا أيها النبي } مخاطباً له بالوصف المقتضي للعلم، ودل على تحقق كون ما يخبر به من مجيئهن بأداة التحقيق علماً من أعلام النبوة فقال: { إذا جاءك المؤمنات } جعل إقبالهن عليه صلى الله عليه وسلم لا سيما مع الهجرة مصححاً لإطلاق الوصف عليهن { يبايعنك } أي كل واحدة منهن تبايع { على أن لا يشركن } أي يوقعن الإشراك لأحد من الموجودات في وقت من الأوقات { بالله } أي الملك الذي لا كفوء له { شيئاً } أي من إشراك على الإطلاق.
ولما كان الشرك بذل حق الملك لمن لا يستحقه، أتبعه أخذ مال المالك بغير حق لاقتضاء الحال لذلك بتمكن المرأة من اختلاس مال الزوج وعسر تحفظه منها فقال: { ولا يسرقن } أي يأخذن مال الغير بغير استحقاق في خفية، وأتبع ذلك بذل حق الغير لغير أهله فقال: { ولا يزنين } أي يمكن أحداً من وطئهن بغير عقد صحيح. ولما كان الزنى قد يكون سبباً في إيجاد أو إعدام نسمة بغير حقها، أتبعه إعدام نسمة بغير حقه فقال: { ولا يقتلن أولادهن } أي بالوأد كما تقدم في النحل وساء في ذلك كونه من زنى أو لا.
ولما ذكر إعدام نسمة بغير حق ولا وجه شرعي أتبعه ما يشمل إيجاد نسمة بغير حل، فقال مقبحاً له على سبيل الكناية عنه بالبهتان وما معه بالتصوير له بلوازمه وآثاره لأن استحضار القبيح وتصوير صورته أزجر عنه فقال: { ولا يأتين ببهتان } أي ولد من غير الزوج يبهت من الحاقة به حيرة في نفيه عنه { يفترينه } أي يتعمدن كذبه، وحقق المراد به وصوره بقوله: { بين أيديهن } أي بالحمل في البطون { وأرجلهن } أي بالوضع من الفروج ولأن عادة الولد مع أنه يسقط بين أيدي أنه ورجليها أنه يمشي أمامها، وهذا شامل لما كان من شبهة أو لقطة. ولما حقق هذه الكبائر العظيمة تعظيماً لأمرها لعسر الاحتراز منها، وأكد النهي عن الزنى مطابقة وإلزاماً لما يجر إليه من الشرور القتل فما دونه، وغلظ أمر النسب لما يتفرع عليه من إيقاع الشبهات وانتهاك الحرمات، عم في النهي فقال: { ولا يعصينك } أي على حال من الأحوال { في معروف } أي فرد كان منه صغيراً كان أو كبيراً، وفي ذكره مع العلم بأنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا به إشعار بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقدم المنهيات على المأمورات المستفادة من المعروف لأن التخلي عن الرذائل مقدم على التخلي بالفضائل لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح: { فبايعهن } أي التزم لهن بما وعدت على ذلك من إعطاء الثواب لمن وفت منهن في نظير ما ألزمن أنفسهن من الطاعة. ولما كان الإنسان محل النقصان لا سيما النسوان رجاهن سبحانه بقوله: { واستغفر } أي اسأل { لهن الله } أي الملك الأعظم ذا الجلال والإكرام في الغفران إن وقع منهن تقصير وهو واقع لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره.
ولما كانت عظمته سبحانه مانعة لعظيم الهيبة من سؤاله ما طمع به، علله بقوله معيداً الاسم الأعظم لئلا يظن بإضماره وتقيده بحيثية الهجرة من النساء ونحو ذلك مؤكداً لما طبع الأدمي عليه من أنه لا يكاد يترك المسيء من عقاب أو عتاب فضلاً عن التفضيل بزيادة الإكرام: { إن الله } أي الذي له صفات الجلال والإكرام فلو أن الناس لا يذنبون لجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم لتظهر صفة إكرامه { غفور } أي بالغ الستر للذنوب عيناً وأثراً { رحيم * } أي بالغ الإكرام بعد الغفران فضلاً منه وإحساناً، وقد حقق سبحانه ذلك وصدق، ومن أصدق من الله قيلاً،
"فأقبل النساء للبيعة عامة ثاني يوم الفتح على الصفا بعد فراغه صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال فنزلت هذه الآية وهو على الصفا فقام عمر بن الخطاب رضي الله أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه وهند بنت عتبة متنقبة متنكرة مع النساء خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها، فلما ذكر الشرك قالت: والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال، وبايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد، فقال { ولا يسرقن } فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصيب من ماله هنات فلا أدري أيحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غير فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال: وإنك لهند بنت عتبة، قالت: نعم، فاعف عني ما سلف عفا الله عنك، فقال: { ولا يزنين } فقال: أو تزني الحرة، فقال { ولا يقتلن أولادهن } فقالت: ربيناهم صغاراً وقتلتموهم كباراً وأنتم وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر فضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر البهتان وهو أن تقذف ولداً على زوجها ليس منه، قالت هند: والله إن البهتان لقبيح وما تدعونا إلا إلى الرشد ومكارم الأخلاق، فقال { ولا يعصينك في معروف } فقالت: ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء، وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة لا تحل له، وكانت أسماء بنت يزيد بن السكن في المبايعات فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ابسط يدك نبايعك، فقال: إني لا أصافح النساء لكن آخذ عليهن" ، وعن الشعبي "أنه صلى الله عليه وسلم دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم غمسن أيديهن فيه، وعنه أنه صلى الله عليه وسلم لقنهن في المبايعة فيما استطعتن وأطقتن فقالت: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا" .
ولما ذكر ما أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم في المبايعات بعد أن عد الذين آمنوا أصلاً في امتحان المهاجرات فعلم من ذلك أن تولي النساء مع أنه لا ضرر فيهن بقتال ونحوه لا يسوغ إلا بعد العلم بإيمانهن، وكان الختم بضفتي الغفران والرحمة مما جرأه على محاباة المؤمنين لبعض الكفار من أزواج أو غيرهم لقرابة أو غيرها لعلة يبديها الزوج أو غير لك من الأمور، كرر سبحانه الأمر بالبراءة من كل عدو، رداً لآخر السورة على أولها تأكيداً للإعراض عنهم وتنفيراً من توليهم كما أفهمته آية المبايعة وآية الامتحان، فقال ملذذاً لهم بالإقبال بالخطاب كما فعل أولها بلذيذ العتاب: { يا أيها الذين آمنوا }.
ولما كان الميل عن الطريق الأقوام على خلاف ما تأمر به الفطرة الأولى فلا يكون إلا عن معالجتها، عبر بالتفعل كما عبر به أول السورة بالافتعال فقال: { لا تتولوا } أي تعالجوا أنفسكم أن تتولوا { قوماً } أي ناساً لهم قوة على ما يحاولونه فغيرهم من باب الأولى { غضب الله } أي أوقع الملك الأعلى الغضب { عليهم } لإقبالهم على ما أحاط بهم من الخطايا فهو عام في كل من اتصف بذلك يتناول اليهود تناولاً أولياً. ولما كان السامع لهذا يتوقع بيان سبب الغضب، قال معللاً ومبيناً أنه لا خير فيهم يرجى وإن ظهر خلاف ذلك: { قد يئسوا } أي تحققوا عدم الرجاء { من الآخرة } أي من أن ينالهم منها خير ما لإحاطة معاصيهم بهم أو لعدم اعتقادهم لقيامها ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، فيوشك من والاهم يكتب منهم فيحل بهم الغضب { كما يئس } من نيل الخير منها { الكفار } ولما كان من مات فصار أهلاً للدفن كشف له عن أحوال القيامة فعرف أنه ناج أو هالك، وكان الموتى أعم من الكفار، وموتى الكفار أعم ممن يدفن منهم فقال: { من أصحاب القبور * } فإن الكفار منهم قد علموا يأسهم من حصول الخير منها علماً قطعياً، ويجوز أن يكون { من } ابتدائية فيكون المعنى: كما يئس عباد الأوثان من لقاء من مات، فدفن باعتقاد أنه لا اجتماع بينهم أصلاً لأنه لا يمكن بعثه لا إلى الدنيا ولا إلى الآخرة لأنه لا آخرة عندهم أصلاً لا سيما إن كان مدفوناً في قبر، وعلى هذا يكون الظاهر وضع موضع المضمر للدلالة على أن الذي أيأسهم تغطية الدلائل مع وضوحها لو أنصفوا، فلا تتولوا من هذه صفته فيكون بينكم وبينه ما بين القريب مع قريبه من تولى كل منهم من الآخر ما يتولاه القريب الصديق لقريبه فإن توليهم ضرر لا نفع فيه فإن من غضب عليه الملك الشهيد لكل حركاته وسكناته لا يفلح هو ولا من تولاه، وأقل ما في ولايته من الضرر أنها تنقطع المعاونة فيها، والمشاركة بالموت وإن كان بعد الموت مشاركة ففي العذاب الدائم المستمر الذي لا ينقطع عنهم والخزي اللازم، وقد علم أن هذا الآخر هو أولها، وهذا الموصل مفصلها، فسبحانه من أنزله كتاباً معجزاً حكيماً، وقرآناً موجزاً جامعاً عظيماً.