التفاسير

< >
عرض

إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوۤاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ
٢
لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٣
-الممتحنة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان ما بينه تعالى من إخراجهم لهم موضحاً بعداوتهم وكان طول كفهم عن قصدهم بالأذى من سنة الأحزاب سنة خمس إلى سنة ثمان ربما شكك في أمرها، وكان سبحانه قد أعز المؤمنين بعد ذلهم وقواهم بعد وهنهم وضعفهم، وثقفهم بعد جهلهم، بين ظلال معتقد ذلك بأن كف الكفار إنما هو لعجزهم وأنهم لو حصل لهم ما هو للمسلمين الآن من القوة لبادروا إلى إظهار العداوة مع أن ذلك في نصر الشيطان، فأولياء الرحمان أولى باتباع ما آتاهم من الإيمان، فقال مبيناً لبقاء عداوتهم: { إن يثقفوكم } أي يجدوكم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن وهم يطمعون في أخذكم بكونهم أقوى منكم أو أعرف بشيء مما يتوصل به إلى الغلبة، وأشار بأداة الشك إلى أن وجدانهم وهم على صفة الثقافة مما لا تحقق له، وإنما هو على سبيل الفرض والتقدير، وأنه إنما علم سبحانه أنه لو كان كيف كان يكون، مع أنه مما لا يكون، ونبه على عراقتهم في العداوة بالتعبير بالكون فقال: { يكونوا لكم } أي خاصة { أعداء } أي يعدون إلى أذاكم كل عدو يمكنهم وإن واددتموهم. ولما كانت العداوة قد تكون بإغراء الغير، عرف أنهم لشدة غيظهم لا يقتصرون على ذلك فقال: { ويبسطوا إليكم } أي خاصة وإن كان هناك في ذلك الوقت من غيركم من قتل أعز الناس إليهم { أيديهم } أي بالضرب إن استطاعوا { وألسنتهم } أي بالشتم مضمومة إلى فعل أيديهم فعل من ضاق صدره بما نجرع من آخر من غيركم من القصص حتى أوجب له غاية السعة { بالسوء } أي بكل ما من شأنه أن يسوء.
ولما كان أعدى الأعداء لك من تمنى أن يفوتك أعز الأشياء لديك، وكان أعز الأشياء عند كل أحد دينه، قال متمماً للبيان: { وودوا } أي وقعت منهم هذه الودادة قبل هذا لأن مصيبة الدين أعظم فهم إليها أسرع لأن دأب العدو القصد إلى أعظم ضرر يراه لعدوه، وعبر بما يفهم التمني الذي يكون في المحالات ليكون المعنى أنهم أحبوا ذلك غاية الحب وتمنوه، وفيه بشرى بأنه من قبيل المحال { لو تكفرون * } أي يقع منكم الكفر الموجب للهلاك الدائم، وقدم الأول لأنه أبين في العداوة وإن كان الثاني أنكأ.
ولما كانت عداوتهم معروفة وإنما غطاها محبة القرابات لأن الحب للشيء يعمي ويصم، فخطأ رأيهم في موالاتهم بما أعلمهم به من حالاتهم، زهد فيها مما يرجع إلى حال من والوهم لأجلهم بما تورثه من الشقاء الدائم يوم البعث، فقال مستأنفاً إعلاماً بأنها خطأ على كل حال: { لن تنفعكم } أي بوجه من الوجوه { أرحامكم } أي قراباتكم الحاملة لكم على رحمتهم والعطف عليهم { ولا أولادكم } الذين هم أخص أرحامكم إن واليتم أعداء الله لأجلهم فينبغي أن لا تعدوا قربهم منكم بوجه أصلاً، ثم علل ذلك بينه بقوله: { يوم القيامة } أي القيام الأعظم.
ولما كان النافي للنفع وقوع الفصل لا كونه من فاصل معين قال بانياً للمفعول على قراءة أبي عمرو ونافع وابن كثير وأبي جعفر وابن عامر من أكثر طرقه إلا أن شدد الصاد للمبالغة في الفصل: { يفصل } أي يوقع الفصل وهو الفرقة العظيمة بانقطاع جميع الأسباب { بينكم } أي أيها الناس فيدخل من شاء من أهل طاعته الجنة، ومن شاء من أهل معصيته النار، فلا ينفع أحد أحداً منكم بشيء من الأشياء إلا إن كان قد أتى الله بقلب سليم فيأذن الله في إكرامه بذلك.
ولما كان التقدير إعلاماً بأن الله هو الفاصل وهو الضار النافع بما دلت عليه قراءة الباقين إلا أن حمزة والكسائي بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد مشددة إشارة إلى عظمة هذا الفصل بخروجه عن المألوف عوداً إلى الاسم الأعظم إشارة إلى عظم الأمر بانتشار الخلائق وأعمالهم: فاللّه على ذلك قدير، عطف عليه قوله: { والله } أي الذي له الإحاطة التامة { بما تعملون } أي من كل عمل في كل وقت { بصير * } فيجازيكم عليه في الدنيا والآخرة، وقد مضى غيره مرة أن تقديم الجار في مثل هذا للتنبه على مزيد الاعتناء بعلم ذلك لا على الاختصاص ولا لأجل الفواصل.