التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
١٥
فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
١٦
إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ
١٧
عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١٨
-التغابن

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما حكم على البعض، كان كأنه قيل: فما حكم سائره؟ فكأن الحكم بذلك يلزم منه الحذر من الكل لكن للتصريح سر كبير في ركون النفس إليه، فقال حاصراً الجميع ضاماً إليهم المال الذي به قيام ذلك كله وقدمه لأنه أعظم فتنة: { إنما } وأسقط الجار لأن شيئاً من ذلك لا يخلو عن شغل القلب فقال: { أموالكم } أي عامة { وأولادكم } كذلك { فتنة } أي اختبار مميل عن الله لكم وهو أعلم بما في نفوسكم منكم لكن ليظهر في عالم الشهادة من يميله ذلك فيكون عليه نقمة ممن لا يميله فيكون له نعمة، فربما رام الإنسان صلاح ماله وولده فبالغ فأفسد نفسه ثم لا يصلح ذلك ماله ولا ولده، وذلك أنه من شأنه أن يحمل على كسب الحرام ومنع الحق والإيقاع في الإثم، روي عن أبي نعيم في الحلية في ترجمة سفيان الثوري عنه أنه قال: "يؤتى برجل يوم القيامة فيقال له: أكل عياله حسناته"ويكفي فتنة المال قصة ثعلبة بن حاطب أحد من نزل فيه قوله فتنة تعالى: { ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن } [التوبة: 75]" وكأنه سبحانه ترك ذكر الأزواج في الفتنة لأن منهم من يكون صلاحاً وعوناً على الآخرة.
ولما كان التقدير: ففي الاحتراز من فتنهم تعب كبير، لا يفوت به منهم إلى حظ يسير، وكانت النفس عند ترك مشتبهاتها ومحبوباتها قد تنفر، عطف عليه مهوناً له بالإشارة إلى كونه فانياً وقد وعد عليه بما لا نسبة له منه مع بقائه قوله: { والله } أي ذو الجلال { عنده } وناهيك بما يكون منه بسبيل جلاله وعظمه { أجر } ولم يكتف سبحانه بدلالة السياق على أن التنوين للتعظيم حتى وصفه بقوله: { عظيم * } أي لمن ائتمر بأوامره التي إنما نفعها لصاحبها، فلم يقدم على رضاه مالاً ولا ولداً، وذلك الأجر أعظم من منفعتكم بأموالكم وأولادكم على وجه ينقص من الطاعة.
ولما كان التقدير: وعنده عذاب أليم لمن خالف، سبب عنه قوله فذلكة أخرى لما تقدم من السورة كلها: { فاتقوا الله } مظهراً غير مضمر تعظيماً للمقام واحترازاً من أن يتوهم نوع تقيد فأفهم الإظهار أن المعنى: اجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعلى وقاية من غير نظر إلى حيثية ولا خصوصية بشيء ما، باجتناب نواهيه بعد امتثال أوامره، فإن التقوى إذا انفردت كان المراد بها فعل الأوامر وترك المناهي، وإذا جمعت مع غيرها أريد بها اجتناب النواهي فقط.
ولما كان الأمر إذا نسب إليه سبحانه أعظم من مقالة قائل، فلا يستطيع أحد أن يقدره سبحانه حق قدره، خفف ويسر بقوله: { ما استطعتم } أي ما دمتم في الجملة قادرين مستطيعين، ويتوجه عليكم التكليف في العلميات والعمليات، وابذلوا جهدكم في ذلك في الإيمانيات لما علمتم من ذاته ومرتبته وصفاته تعالى وأفعاله، وغير ذلك من جميع أعمالكم الظاهرة والباطنة، وأعظمه الهجرة والجهاد، فلا يمنعكم الإخلاد إليها ذلك والتقوى فيما وقع من المكروهات بالندم والإقلاع مع العزم على ترك العود، وفيما لم يقع بالاحتراس عن أسبابه، وبذل الإنسان جميع جهده هو الاتقاء حق التقاة فلا نسخ - والله أعلم.
ولما كان إظهار الإسلام فيه مشقة كالأعمال قال: { واسمعوا } أي سماع إذعان وتسليم لما توعظون به ولجميع أوامره { وأطيعوا } أي وصدقوا ذلك الإذعان بمباشرة الأفعال الظاهرة في الإسلاميات من القيام بأمر الله والشفقة على خلق الله في كل أمر ونهي على حسب الطاقة، وحذف المتعلق ليصدق الأمر بكل طاعة من الكل والبعض وكذا في الإنفاق. ولما كان الإنفاق شديداً أكد أمره بتخصيصه بالذكر فقال: { وأنفقوا } أي أوقعوا الإنفاق كما حد لكم فيما أوجبه أو ندب إليه وإن كان في حق من اطلعتم منها على عداوة، والإنفاق لا يخص نوعاً بل يكون ما رزق الله من الذاتي والخارجي.
ولما كان الحامل على الشح ما يخطر في البال من الضرورات التي أعزها ضرورة النفس، رغب فيه بما ينصرف إليه بادىء بدء ويعم جميع ما تقدم فقال: { خيراً } أي يكن ذلك أعظم خير واقع { لأنفسكم } فإن الله يعطي خيراً منه في الدنيا ما يزكي به النفس، ويدخر عليه من الجزاء في الآخرة ما لا يدري كنهه، فلا يغرنكم عاجل شيء من ذلك فإنما هو زخرف وغرور لا طائل تحته. ولما ذكر ما في الإنفاق من الخير عم في جميع الأوامر فقال: { ومن يوق } بناه للمفعول تعظيماً للترغيب فيه نفسه مع قطع الناصر عن الفاعل أي يقيه واق أيّ واق كان - وأضافه إلى ما الشؤم كله منه فقال: { شح نفسه } فيفعل في ماله وجميع ما أمر به ما يطيقه مما أمر به موقناً به مطمئناً إليه حتى يرتفع عن قلبه الأخطار، ويتحرز عن رق المكونات، والشح: خلق باطن هو الداء العضال رأس الحية وكل فتنة ضلالة، والبخل فعل ظاهر ينشأ عن الشح، والنفس تارة تشح بترك الشهوة من المعاصي فتفعلها، وتارة بإعطاء الأعضاء في الطاعات فتتركها، وتارة بإنفاق المال، ومن فعل ما فرض عليه خرج عن الشح. ولما كان الواقي إنما هو الله تعالى سبب عن وقايته قوله: { فأولئك } أي العالو الرتبة { هم } أي خاصة { المفلحون * } أي الذين حازوا جميع المرادات بما اتقوا الله فيه من الكونيات من المال والولد والأهل والمشوشات من جميع القواطع. ولما أمر ورهب من ضده على وجه أعم، رغب فيه تأكيداً لأمره لما فيه نم الصعوبة لا سيما في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فإن المال فيه كان في غاية العزة ولا سيما إن كان في لوازم النساء اللاتي افتتح الأمر بأن منهن أعداء ولا سيما إن كان في حال ظهور العداوة، فقال بياناً للإفلاح متلطفاً في الاستدعاء بالتعبير بالقرض مشيراً إلى أنه على خلاف الطبع بأدة الشك: { إن تقرضوا الله } أي الملك الأعلى ذا الغنى المطلق المستجمع لجميع صفات الكمال بصرف المال وجميع قواكم التي جعلها فتنة لكم في طاعاته، ورغب في الإحسان فيه بالإخلاص وغيره فقال: { قرضاً حسناً } أي على صفة الإخلاص والمبادرة ووضعه في أحسن مواضعه على أيسر الوجوه وأجملها وأهنأها وأعدلها، وأعظم الترغيب فيه بأن رتب عليه الربح في الدنيا والغفران في الآخرة فقال: { يضاعفه لكم } أي لأجلكم خاصة أقل ما يكون للواحد عشراً إلى ما لا يتناهى على حسب النيات، قال القشيري: يتوجه الخطاب بهذا على الأغنياء في بذل أموالهم وعلى الفقراء في إخلاء أيامهم وأوقاتهم عن مراداتهم وإيثار مراد الحق على مراد أنفسهم، فالغني يقال له: آثر على مرادك في مالك وغيره، والفقير يقال له: آثر حكمي في نفسك وقلبك ووقتك.
ولما كان الإنسان لما له النقصان وإن اجتهد لا يبلغ جميع ما أمر به لأن الدين وإن كان يسيراً فهو متين لن يشاده أحد إلا غلبه قال: { ويغفر لكم } أي يوقع الغفران وهو محو ما فرط عينه وأثره لأجلكم ببركة الإنفاق، وقد تضمنت هاتان الجملتان جلب السرور ودفع الشرور، وذلك هو السعادة كلها.
ولما كان التقدير: فاللّه غفور رحيم، عطف عليه قوله: { والله } أي الذي لا يقاس عظمته بشيء { شكور } أي بليغ الشكر لمن يعطي لأجله ولو كان قليلاً فيثيبه ثواباً جزيلاً خارجاً عن الحصر وهو ناظر إلى المضاعفة { حليم * } لا يعاجل بالعقوبة على ذنب من الذنوب وإن عظم بل يمهل كثيراً طويلاً ليتذكر العبد الإحسان مع العصيان فيتوب، ولا يهمل ولا يغتر بحلمه، فإن غضب الحليم لا يطاق، وهو راجع إلى الغفران.
ولما كان الحليم قد يتهم في حلمه بأن ينسب إلى الجهل بالذنب أو بمقداره قال: { عالم الغيب } وهو ما غاب عن الخلق كلهم فيشمل ما هو داخل القلب مما تؤثره الجبلة ولا علم لصاحب القلب به فضلاً عن غيره. ولما كان قد يظن أنه لا يلزم من علم ما غاب علم ما شهد، أو يظن أن العلم إنما يتعلق بالكليات، قال موضحاً أن علمه بالعالمين بكل من الكليات والجزئيات قبل الكون وبعده على حد سواء: { والشهادة } وهو كل ما ظهر فكان بحيث يعلمه الخلق، وهذا الوصف داع إلى الإحسان من حيث إنه يوجب للمؤمن ترك ظاهر الاسم وباطنه وكل قصور وفتور وغفلة وتهاون فيعبد الله كأنه يراه.
ولما شمل ذلك كل ما غاب عن الخلق وما لم يغب عنهم فلم يبق إلا أن يتوهم أن تأخير العقوبة للعجز قال: { العزيز } أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء. ولما كان ذلك قد يكون لأمر آخر لا يمدح عليه قال: { الحكيم * } أي أنه ما أخره إلا لحكمة بالغة يعجز عن إدراكها الخلائق، وقد أقام الخلائق في طاعته بالجري تحت إرادته، وتارة يوافق ذلك أمره فيسمى طاعة. وتارة يخالف فيسمى معصية، فمن أراد أتم نعمته عليه بالتوفيق للطاعة بموافقته أمره بإحاطة علمه والإتقان في التدبير ببالغ حكمته وإدامة ذلك وحفظه عن كل آفة بباهر عزته، ومن أراد منعه ذلك بذلك أيضاً والكل تسبيح له سبحانه بإفادة أنه الواحد القهار، وقد أحاط أول الجمعة بهذه السورة أولها وآخرها، فجاءت هذه شارحة له وكاشفة عنه على وجه أفخم لأن مقصود هذه نتيجة مقصد تلك، وقد رجع - بالتنزه عن شوائب النقص والاختصاص بجميع صفات الكمال وشمول القدرة للخق وإحاطة العلم بأحوال الكافر والمؤمن - على افتتاحها حسن ختامها، وعلم علماً ظاهراً جلالة انتظامها، وبداعة اتساق جميع آيها وبراعة التئامها - والله الموفق للصواب.