التفاسير

< >
عرض

وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً
٤
ذَلِكَ أَمْرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً
٥
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ
٦
-الطلاق

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما وسط بين العدد هذه الجمل الواعظة دلالة على عظمتها حثاً على امتثالها والمبادرة إليها، وختم بالتقدير، أتبع ذلك بيان مقادير العدد على وجه أبان أن الكلام الماضي كان في الحوائض الرجعيات فقال: { واللائي يئسن } أي من المطلقات { من المحيض } أي الحيض وزمانه لوصولها إلى سن يجاوز القدر الذي ترجو فيه النساء الحيض فصارت بحيث لا ترجوه، وذلك السن خمس وخمسون سنة أو ستون سنة، وقيل: سبعون وهن القواعد، وأما من انقطع حيضها في زمن ترجو فيه الحيض فإنها تنتظر سن اليأس.
ولما كان هذا الحكم خاصاً بأزواج المسلمين لحرمة فرشهم وحفظ أنسابهم قال: { من نسائكم } أي أيها المسلمون سواء كن مسلمات أو من أهل الكتاب، ولما كان الموجب للعدة إنما هو الدخول لا مجرد الطلاق قال: { إن ارتبتم } بأن أجلتم النظر في أمرهن، فأداكم إلى ريب في هل هن حاملات أم لا، وذلك بالدخول عليهن الذي هو سبب الريب بالحمل في الجملة { فعدتهن ثلاثة أشهر } كل شهر يقوم مقام حيضة لأن أغلب عوائد النساء أن يكون كل قرء في شهر.
ولما أتم قسمي ذوات الحيض إشارة وعبارة قال: { واللائي لم يحضن } أي لصغرهن أو لأنهن لا حيض لهن أصلاً وإن كن بالغات فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً، وهذا مشير إلى أن أولات الحيض بائنات كن أو لا عدتهن ثلاثة قروء كما تقدم في البقرة لأن هذه الأشهر عوض عنها، فأما أن يكون القرء - وهو الطهر - بين حيضتين، أو بين الطلاق والحيض، وهذا كله في المطلقة، وأما المتوفى عنها زوجها فأربعة أشهر وعشراً كما في البقرة.
ولما فرغ من آئسات الحوامل أتبعه ذكر الحوامل فقال: { وأولات الأحمال } أي من جميع الزوجات المسلمات والكفار المطلقات على كل حال والمتوفى عنهن إذا كان حملهن من الزوج مسلماً كان أو لا { أجلهن } أي لمنتهى العدة سواء كان لهن مع الحمل حيض أم لا { أن يضعن } ولما كان توحيد الحمل لا ينشأ عنه لبس، وكان الجمع ربما أوهم أنه لا تحل واحدة منهن حتى يضع جمعاً قال: { حملهن } وهذا على عمومه مخصص لآية
{ يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } [البقرة: 234] لأن المحافظة على عمومه أولى من المحافظة على عموم ذلك في قوله: { أزواجاً } لأن عموم هذه بالذات لأن الموصول من صيغ العموم، وعموم { أزواجاً } بالعرض لأنه بدلي لا يصلح لتناول جميع الأزواج في حال واحد، والحكم معلل هنا بوصف الحملية بخلاف ذاك ولأن سبيعة بنت الحارث وضعت حملها بعد وفاة زوجها بليال، فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتزوج، ولأن هذه الآية متأخرة النزول عن آية البقرة، فتقديمها على تلك تخصيص، وتقديم تلك في العمل بعمومها رفع لما في الخاص من الحكم فهو نسخ والأول هو الراجح للوفاق عليه، فإن كان الحمل من زنا أو شبهة فلا حرمة له، والعدة بالحيض.
ولما كانت أمور النساء في المعاشرة والمفارقة من المعاسرة والمياسرة في غاية المشقة، فلا يحمل على العدل فيها والعفة إلا خوف الله، كرر تلميعاً بالحث على التقوى إشارة إلى ذلك وترغيباً في لزوم ما حده سبحانه، فقال عاطفاً على ما تقديره: فمن لم يحفظ هذه الحدود عسر الله عليه أموره: { ومن يتق الله } أي يوجد الخوف من الملك الأعظم إيجاداً مستمراً ليجعل بينه وبين سخطه وقاية من طاعاته اجتلاباً للمأمور واجتناباً للمنهي { يجعل له } أي يوجد إيجاداً مستمراً باستمرار التقوى "إن الله لا يمل حتى تملوا" { من أمره } أي كله في النكاح وغيره { يسراً * } أي سهولة وفرجاً وخيراً في الدارين بالدفع والنفع، وذلك أعظم من مطلق المخرج المتقدم في الآية الأولى.
ولما كان تكرير الحث على التقوى للسؤال عن سببه، استأنف قوله كالتعليل له: { ذلك } أي الأمر المذكور من جميع هذه الأحكام العالية المراتب { أمر الله } أي الملك الأعلى الذي له الكمال كله، ونبه على علو رتبة الأمر بقوله: { أنزله إليكم } ولما كان التقدير: فمن أباه هوى في مهاوي المهلكات إلى أسفل سافلين، عطف عليه قوله: { ومن يتق الله } أي الذي لا أمر لأحد معه بالاجتلاب والاجتناب، ولما كان الإنسان محل العجز والنقصان، أنسه بأنه إذا وقع منه زلل فراجعه بالتقوى لطف به فيه جزاء على تقواه بالدفع والنفع فقال: { يكفر } أي يغطي تغطية عظيمة ويستر ويغيب ويسقط { عنه } جميع { سيئاته } ليتخلى عن المبعدات فإن الحسنات يذهبن السيئات. ولما كان الكريم لا يرضى لمن أقبل إليه بالعفو فقط قال: { ويعظم له أجراً * } بأن يبدل سيئاته حسنات ويوفيه أجرها في الدارين مضاعفاً فيتحلى بالمقربات، وهذا أعظم من مطلق اليسر المتقدم. ولما قدم التكفير وأتبعه الأجر الكبير، وكان قد تقدم إيجاب ترك المطلقة في منزل الطلاق وأذن في إخراجها عند الفاحشة المبينة، وكان ربما كان منزل الطلاق مستعاراً، وكان مما لا يليق بالزوج، وكان ربما نزل الكلام السابق عليه، استأنف البيان له بما لا يحتمل لبساً فقال آمراً بعد ذلك النهي على وجه مشير بسابقه ولاحقه إلى الحلم عنهن فيما يمكن الحلم فيه حفظاً للقلوب وإبعاداً للشقاق بعد الإيحاش بالطلاق لئلا يعظم الكسر والوحشة: { أسكنوهن } أي هؤلاء المفارقات في العدة إن كن مطلقات حاملات كن أو لا مبتوتات كن أو رجعيات بخلاف ما كان من العدة عن وفاة بغير حمل أو كان عن شبهة أو فسخ.
ولما كان المراد مسكناً يليق بها وإن كان بعض مسكن الرجل، إدخل أداة التبعيض فقال: { من حيث سكنتم } أي من أماكن سكناكم لتكون قريبة منكم ليسهل تفقدكم لها للحفظ وقضاء الحاجات. ولما كان الإنسان ربما سكن في ماضي الزمان ما لا يقدر عليه الآن قال مبيناً للمسكن المأمور به مبقياً للمواددة بعدم التكليف بما يشق: { من وجدكم } أي سعتكم وطاقتكم بإجارة أو ملك أو إعارة حتى تنقضي العدة بحمل كانت أو غيره. ولما كان الإسكان قد يكون مع الشنآن قال: { ولا تضاروهن } أي حال السكنى في المسكن ولا في غيره. ولما كانت المضارة قد يكون لمقصد حسن بأن يكون تأديباً لأمر بمعروف ليتوصل بصورة شر قليل ظاهر إلى خير كثير قال: { لتضيقوا } أي تضييقاً بالغاً لا شبهة في كونه كذلك مستعلياً { عليهن } حتى يلجئهن ذلك إلى الخروج. ولما كانت النفقة واجبة للرجعية، وكانت عدتها تارة بالأقراء وتارة بالأشهر وتارة بالحمل، وكان ربما توهم أن ما بعد الثلاثة الأشهر من مدة الحمل للرجعية وجميع المدة لغيرها لا يجب الإنفاق فيه قال: { وإن كن } أي المعتدات { أولات حمل } أي من الأزواج كيف ما كانت العدة من موت أو طلاق بائن أو رجعي { فأنفقوا عليهن } وإن مضت الأشهر { حتى يضعن حملهن } فإن العلة الاعتداد بالحمل، وهذه الشرطية تدل على اختصاص الحوامل من بين المعتدات البوائن بوجوب النفقة.
ولما غيى سبحانه وجوب الإنفاق بالوضع، وكانت قد تريد إرضاع ولدها، وكان اشتغالها بإرضاعه يفوت عليها كثيراً من مقاصدها ويكسرها، جبرها بأن قال حاثاً على مكافأة الأخوان على الإحسان مشيراً بأداة الشك إلى أنه لا يجيب عليها الإرضاع: { فإن أرضعن } وبين أن النسب للرجال بقوله تعالى: { لكم } أي بأجرة بعد انقطاع علقة النكاح { فآتوهن أجورهن } على ذلك الإرضاع. ولما كان ما يتعلق بالنساء من مثل ذلك موضع المشاجرة لا سيما أمر الرضاع، وكان الخطر في أمره شديداً، وكان الله تعالى قد رحم هذه الأمة بأنه يحرك لكل متشاححين من يأمرهما بخير لا سيما في أمر الولد رحمة له قال مشيراً إلى ذلك: { وأتمروا } أي ليأمر بعضكم بعضاً في الإرضاع والأجر فيه وغير ذلك وليقبل بعضكم أمر بعض، وزادهم رغبة في ذلك بقوله: { بينكم } أي إن هذا الخير لا يعدوكم، وأكد ذلك بقوله: { بمعروف } ونكره سبحانه تحقيقاً على الأمة بالرضى بالمستطاع، وهو يكون مع الخلق بالإنصاف، ومع النفس بالخلاف، ومع الحق بالاعتراف.
ولما كان ذلك موجباً للمياسرة، وكان قد يوجد في الناس من الغالب عليه الشر، قال مشيراً بالتعبير بأداة الشك إلى أن ذلك وإن وجد فهو قليل عاطفاً على ما تقديره فإن تياسرتم فهو حظكم وأنتم جديرون بسماع هذا الوعد بذلك: { وإن تعاسرتم } أي طلب كل منكم ما يعسر على الآخر بأن طلبت المرأة الأجرة وطلب الزوج إرضاعها مجاناً فليس له أن يكرهها. ولما كان سبحانه قد تكفل بأرزاق عباده وقدرها قبل إيجادهم. قال مخبراً جبراً للأب بما يصلح عتاباً للأم: { فسترضع } أي بوعد لا خلف فيه، وصرف الخطاب إلى الغيبة إيذاناً بأن الأب ترك الأولى فيما هو جدير به من المياسرة لكونه حقيقاً بأن يكون أوسع بطاناً وأعظم شأناً من أن يضيق عما ترضى به المرأة استناناً به صلى الله عليه وسلم في أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطعية رحم فقال: { له } أي الأب { أخرى * } أي مرضعة غير الأم ويغني الله عنها وليس له إكرهها إلا إذا لم يقبل ثدي غيرها، وهذا الحكم لا يختص بالمطلقة بل المنكوحة كذلك.