التفاسير

< >
عرض

ءَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ
١٦
أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ
١٧
وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ
١٨
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـٰفَّـٰتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ
١٩
-الملك

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما لم يكن بعد الاستعطاف إلا الإنذار على الخلاف، قال مهدداً للمكذبين بعذاب دون عذاب جهنم، منكراً عليهم الأمان بعد إقامة الدليل على أن بيده الملك، وأنه قادر على ما يريد منه بأسباب جنوده وبغير سبب، مقرراً بعد تقرير حاجة الإنسان وعجزه أنه لا حصن له ولا مانع له بوجه من عذاب الله، فهو دائم الافتقار ملازم للصغار: { أأمنتم } أي أيها المكذبون، وخاطبهم بما كانوا يعتقدون مع أنه إذا حمل على الرتبة وأول السماء بالعلو أو جعل كناية عن التصرف لأن العادة جرت غالباً أن من كان في شيء كان متصرفاً فيه صح من غير تأويل فقال: { من في السماء } أي على زعمكم العالية قاهرة لكم، أو المعنى: من الملائكة الغلاظ الشداد الذي صرفهم في مصالح العباد، أو المعنى: في غاية العلو رتبة، أو أن ذلك إشارة إلى أن في السماء أعظم أمره لأنها ترفع إليها أعمال عباده وهي مهبط الوحي ومنزل القطر ومحل القدس والسلطان والكبرياء وجهة العرش ومعدن المطهرين والمقربين من الملائكة الذين أقامهم الله في تصريف أوامره ونواهيه، والذي دعا إلى مثل هذا التأويل السائغ الماشي على لسان العرب قيام الدليل القطعي على أنه سبحانه ليس بمتحيز في جهة لأنه محيط فلا يحاط به، لأن ذلك لا يكون إلا لمحتاج؛ ثم أبدل من "من" بدل اشتمال فقال: { أن }.
ولما كانت قدرته على ما يريد بلا واسطة كقدرته بالواسطة، وقدرته إذا كان الواسطة جمعاً كقدرته إذا كان واحداً، لأن الفاعل على كل تقدير حقيقة هو لا غيره، وحد بما يقتضيه لفظ "من" إشارة إلى هذا المعنى سواء أريد بـ"من" هو سبحانه أو ملائكته أو واحد منهم فقال: { يخسف } أي أأمنتم خسفه، ويجوز أن يراد بـ"من" الله سبحانه وتعالى كما مضى خطاباً على زعمهم وظنهم أنه في السماء وإلزاماً لهم بأنه كما قدر على الإمطار والإنبات وغيرهما من التصرفات في الأرض فهو يقدر على غيره { بكم الأرض } كما خسف بقارون وغيره.
ولما كان الذي يخسف به من الأرض يصير كالساقط في الهواء وكان الساقط في الهواء يصير يضطرب، سبب عن ذلك قوله: { فإذا هي } أي الأرض التي أنتم بها { تمور * } أي تضرب وهي تهوي بكم وتجري هابطة في الهواء وتتكفأ إلى حيث شاء سبحانه، قال في القاموس: المور الاضطراب والجريان على وجه الأرض والتحرك.
ولما كانوا ربما استبعدوا الخسفة، وكانوا يعهدون ما ينزل من السماء من الندى والأمطار والصواعق، عادل بذلك قوله: { أم أمنتم } أي أيها المكذبون، وكرر لهم ذكر ما يخشونه زيادة في الترهيب فقال: { من في السماء } على التقديرين { أن يرسل عليكم } أي من السماء { حاصباً * } أي حجارة يحصبكم - أي يرميكم - بها مع ريح عاصف بقوتها كما وقع لقوم لوط وأصحاب الفيل.
ولما كان هذا الكلام إنذاراً عظيماً ووعظاً بليغاً شديداً، وكان حالهم عنده متردداً بين إقبال وإدبار، سبب عنه على تقدير إدبارهم بتماديهم بما للإنسان من النقصان قوله متوعداً بما يقطع القلوب، ولفت القول إلى مقام التكلم إيذاناً بتشديد الغضب: { فستعلمون } أي عن قريب بوعد لا خلف فيه في الدنيا ثم في الآخرة.
ولما كان العلم بكيفية الشيء أعظم من العلم بمطلق ذلك الشيء لأنه يلزم من العلم بها العلم بمطلق ذلك الشيء، وكان ما هو بحيث يسأل عنه لا يكون إلا عظيماً قال: { كيف نذير * } أي إنذاري البليغ إذا شاهدتم العذاب وهو بحيث لا يستطاع، ولا تتعلق الأطماع بكشف له ولا دفاع، وحذف الياء منه ومن "نكير" إشارة إلى أنه وإن كان خارجاً عن الطرق ليس منتهى مقدوره بل لديه مزيد، لا غاية له بوجه ولا تحديد.
ولما كان من المعلوم أن المأمور بإبلاغهم وإنذارهم هذا الإنذار صلى الله عليه وسلم في غاية الرحمة لهم والشفقة عليهم فهو بحيث يشق عليه غاية المشقة ما أفهمه هذا الكلام من إهلاكهم أن يصدقوا، ويحب التأني بهم، لفت سبحانه الخطاب إليه عاطفاً على ما تقديره: فلقد طال إمهالنا لهم وحلمنا عنهم وتعريفنا لهم بعظيم قدرتنا وهم لا يرجعون وكثر وعظنا لهم وتصريفنا القول بينهم على ألسنة رسلنا عليهم الصلاة والسلام وهم يتمادون ولا ينتهون، قوله مصوراً لهم ما توعدهم به في أمر محسوس لأن الأمور المشاهدات أروع للإنسان لما له من التقيد بالوهم مؤكداً للإشارة إلى أن التكذيب مع إقامة البراهين أمر يجب إنكاره فلا يكاد يصدق: { ولقد كذب } وطغى وبغى وأعرض وتجبر وتمرد وولى بوجهه وقلبه { الذين }.
ولما كان هذا التكذيب لم يعم الماضين بعض فقال: { من قبلهم } يعني كفار الأمم الماضية.
ولما كان سبحانه قد أملى لهم ثم أخذهم بعد طول الحلم أخذاً بقيت أخباره، ولم تندرس إلى الآن على تمادي الزمان آثاره، فكان بحيث يسأل عنه لعظم أحواله، وشدة زلازله وفظاعة أهواله، سبب عن ذلك قوله منبهاً على استحضار ذلك العذاب ولو بالسؤال عنه: { فكيف كان نكير * } أي إنكاري عليهم بما أصبتهم به من العذاب في تمكن كونه وهول أمره، فقد جمع إلى التسلية غاية التهديد.
ولما ذكر بمصارع الأولين، وكان التذكير بالحاصب تذكيراً لقريش بما حصب به على قرب الزمان عدوهم أصحاب الفيل بما أرسل عليهم من الطير الأبابيل تحذيراً لهم من ذلك إن تمادوا على كفره، ولم ينقادوا إلى شكره، فكان التقدير تقريراً لزيادة قدرته وحسن تدبيره ولطف تربيته حيث جبر الطير لضعفها بالطيران ليكمل بعموم رحمانيته أمر معاشها تقريراً لأن بيده الملك وترهيباً من أن ينازعه أحد في تدبيره مع تبقية القول مصروفاً عن خطابهم، إيذاناً بشدة حسابهم وسوء منقلبهم ومآبهم؛ ألم يروا إلى قدرتنا على مصارع الأولين وإهلاك المكذبين وإنجاء المؤمنين، عطف عليه قوله معرضاً عنهم زيادة في الإنذار بالحصب من الطير وغيرها: { أو لم يروا } وأجمع القراء على القراءة هنا بالغيب لأن السياق للرد على المكذبين بخلاف ما في النحل. وأشار إلى بعد الغاية بحرف النهاية فقال: { إلى الطير } وهو جمع طائر.
ولما كان الجو كله مباحاً للطيران نزع الجار فقال: { فوقهم } وبين حال الطير في الفوقية بقوله واصفاً لها بالتأنيث إشارة إلى ضعفها في أنفسها لولا تقويته لها { صافات } أي باسطات أجنحتها تمدها غاية المد بحيث تصير مستوية لا اعوجاج فيها مع أنه إذا كان جماعة منها كانت صفوفاً أو صفاً واحداً في غاية الانتظام تابعة لإمام منها.
ولما عبر عن الصف بالاسم لأنه الأصل الثابت، عبر عن التحريك بالفعل لأن الطيران في ساحة الهواء كالسباحة في باحة الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، والبقض طارىء على البسط فقال: { ويقبضن } أي يوقعن قبض الأجنحة وبسطها وقتاً بعد وقت للاستراحة والاستظهار به على السبح في الهواء. ولما تم هذا التقدير على هذا الوجه الرائع للقلوب ترجمه بقوله: { ما يمسكهن } أي في الجو في حال القبض والبسط عن السقوط على خلاف ما يقتضيه الطبع.
ولما كان هذا من التدبير المحكم الناظر إلى عموم الرحمة قال: { إلا الرحمن } أي الملك الذي رحمته عامة لكل شيء بأن هيأهن - بعد أن أفاض عليهن رحمة الإيجاد - على أشكال مختلفة وخصائص مفترقة للجري في الهواء بما أوجد لها من القوادم والحوافي وغير ذلك من الهيئات المقابلة لذلك، وكذا جميع العالم لو أمسك عنه حفظه طرفة عين لفسد بتهافت الأفلاك وتداعي الجبال وغيرها، وعبر في النحل بالاسم الأعظم لأن سياقها للرد على أهل الطبائع وهم الفلاسفة الذين لا يقوم بالرد عليهم إلا المتبحر في معرفة جميع أصول الدين بمعرفة جميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى التي جمعها اسم الذات.
ولما كان هذا أمراً رائعاً للعقل، ولكنه لشدة الإلف صار لا يتنبه له إلا بالتنبيه، وكان الجاهل ربما ظن أن التقدير على الطيران خاص بالطير، نبه سبحانه على عظمة ما هيأ الطير له وعلى أنه يقدر أن يجعل ذلك لغيره بقوله مؤكداً لأجل قصور بعض العقول عن التصديق بذلك وتضمن الإشراك للطعن في تمام الاقتدار المتضمن للطعن في تمام العلم: { إنه } أي الرحمن سبحانه { بكل شيء } قل أو كثر جليل وحقير ظاهر وباطن { بصير * } بالغ البصر والعلم بظواهر الأشياء وبواطنها، فمهما أراد كان وهو يخلق العجائب ويوجد الغرائب، فيهيىء من أراد من الآدميين وغيرهم لمثل ذلك.