التفاسير

< >
عرض

أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنِ ٱلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ
٢٠
أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ
٢١
أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٢٢
قُلْ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
٢٣
-الملك

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان التقدير تقريراً لذلك: فمن يدبر مصالحكم ظاهراً وباطناً، وفعل هذه الأنواع من العذاب بالمكذبين من قبلكم، عطف عليه قوله عائداً إلى الخطاب لأنه أقعد في التكبيث والتوبيخ، وأدل على أن المخاطب ليس بأهل لأن يهاب مقرراً لأنه مختص بالملك: { أمَّن } ونبه على أن المدبر للأشياء لا بد أن يكون في غاية القرب والشهادة لها ليكون بصيراً برعيها، ويكون مع مزيد قربه عالي الرتبة بحيث يشار إليه، فقال مقرراً لعجز العباد: { هذا } بإشارة الحاضر { الذي } وأبرز العائد لأنه لا بد من إبرازه مع الاسم بعدم صلاحه لتحمل الضمير فقال: { هو جند } أي عسكر وعون، وصرف القول عن الغيبة إلى الخطاب لأنه أبلغ في التقريع فقال: { لكم ينصركم } أي على من يقصدكم بالخسف والحصب وغيرهما، ويجوز أن يكون التقدير: ألكم إله يدبر مصالحكم غيرنا أم كان الذي عذب من كذب الرسل سوانا أم لكم جند يصار إليه ينصركم دوننا كما قال تعالى { أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا } [الأنبياء: 43] ولكنه أخرجه مخرج الاستفهام عن تعيين الجند تعريفاً بأنهم لغاية جهلهم اعتقدوا أن لهم من أجناد الأرض أو السماء من ينصرهم وإلا لما كانوا آمنين.
ولما كانت المراتب متضائلة عن جنابه متكثرة جداً، قال تعالى مشيراً بالحرف والظرف إلى ذلك منبهاً على ظهوره سبحانه فوق كل شيء، لم يقدر أحد ولا يقدر أن ينازعه في ذلك ولا في أنه مستغرق لكل ما دونه من المراتب: { من دون الرحمن } إن أرسل عليكم عذابه، وأظهر ولم يضمر بعثاً على استحضار ما له من شمول الرحمة، وتلويحاً إلى التهديد بأنه لو قطعها عن أحد ممن أوجده عمه الغضب كله، ولذلك قال مستنتجاً عنه تنبيهاً على أن رفع المضار وجمع المسار ليس إلا بيده لأنه المختص بالملك: { إن } أي ما، وأبرز الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف ومواجهة بذلك لأنه أقعد في التوبيخ فقال: { الكافرون } أي العريقون في الكفر وهم من يموت عليه { إلا في غرور * } أي قد أحاط بهم فلا خلاص لهم منه وهو أنهم يعتمدون على غير معتمد.
ولما قدم أعظم الرحمة بالحياطة والنصرة الموجبة للبقاء، أتبعه ما يتم به البقاء فقال: { أمّن } وأشار إلى القرب بالعلم والبعد بالعلو والعظمة بقوله: { هذا } وأشار إلى معرفة كل أحد له بصفاته العلية التي تنشأ عنها أفعاله المحكمة السنية، فقال: { الذي } وأسقط العائد لتحمل الفعل له فقال: { يرزقكم } أي على سبيل التجدد والاستمرار، لا ينقطع معروفه أبداً مع أنه قد وسع كل شيء ولا غفلة له عن شيء { إن أمسك رزقه } بإمساك الأسباب التي تنشأ عنها ويكون وصوله إليكم منها كالمطر، ولو كان الرزق موجوداً أو كثيراً وسهل التناول فوضع الأكلة في فمه فأمسك الله عنه قوة الازدراء عجز أهل السموات والأرض عن أن يسوغوه تلك اللقمة.
ولما قامت بهذا دلائل قدرته وشمول علمه على سبيل العموم فالخصوص، فكان ذلك مظنة أن يرجع الجاحد ويخجل المعاند، ويعلم الجاهل ويتنبه الغافل، فكان موضع أن يقال: هل رجعوا عن تكذيبهم، عطف عليه قوله لافتاً الكلام إلى الغيبة إعراضاً عنهم تنبيهاً على سقوط منزلتهم وسوء أفهامهم وقوة غفلتهم: { بل لجوا } أي تمادوا سفاهة لا احتياطاً وشجاعة، قال الرازي في اللوامع: واللجاج تقحم الأمر مع كثرة الصوارف عنه { في عتو } أي مظروفين لعناد وتكبر عن الحق وخروج إلى فاحش الفساد { ونفور * } أي شراد عن حسن النظر والاستماع، دعا إليه الطباع، واستولى ذلك عليهم حتى أحاط بهم مع أنه لا قوة لأحد منهم في جلب سار ولا دفع ضار، والداعي إلى ذلك الشهوة والغضب.
ولما كان هذا فعل من لا بصر له ولا بصيرة، سبب عنه قوله ممثلاً للموحد والمشرك بسالكين ولدينيهما بمسلكين: { أفمن يمشي } أي على وجه الاستمرار { مكباً } أي داخلاً بنفسه في الكب وصارا إليه، وهو السقوط { على وجهه } وهو كناية عن السير على رسم مجهول وأثر معوج معلول، على غير عادة العقلاء لخلل في أعضائه، واضطراب في عقله ورأيه، فهو كل حين يعثر فيخر على وجهه، لأنه لعدم نظره يمشي في أصعب الأماكن لإمالة الهوى له عن المنهج المسلوك، وغلبة الجهل عليه فهو بحيث لا يكون تكرار المشاق عليه زاجراً له عن السبب الموقع له فيه، ولم يسم سبحانه وتعالى ممشاه طريقاً لأنه لا يستحق ذلك.
ولما كان ربما صادف السهل لا عن بصيرة بل اتفاقاً قال: { أهدى } أي أشد هداية { أمّن يمشي } دائماً مستمراً { سوياً } قائماً رافعاً رأسه ناصباً وجهه سالماً من العثار لأنه لانتصابه يبصر ما أمامه وما عن يمينه وما عن شماله { على صراط } أي طريق موطأ واسع مسلوك سهل قويم { مستقيم * } أي هو في غاية القوم، هذا مثل من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً فإنه يتبع الفطرة الأولى السليمة عن شهوة أو غضب أو شائبة حظ، والأول مثل الكافر، حاله في سيره إلى الله حال المكب أي الذي كب نفسه بغاية الشهوة على وجهه، لا يرى ما حوله ولا يشعر بما أحاط به، ولا ينظر في الآيات ولا يعتبر بالمسموعات، فهو اليوم شيء باطن لظهر يوم القيامة فيحشر على وجهه إلى النار جزاء لرضاه بحالته هذه في هذه الدار فيظهر له سبحانه ما أبطن له اليوم، والمؤمن بخلاف ذلك فيهما، والآية من الاحتباك: ذكر الكب أولاً دليلاً على ضده ثانياً، والمستقيم ثانياً دليلاً على المعوج أولاً، وسره أنه ذكر أنكأ ما للمجرم وأسر ما للمسلم.
ولما كان العرب الموعوظون بهذا الذكر يتغالون في التفاخر بالهداية في الطرق المحسوسة وعدم الإخلال بشكر المعروف لمسديه ولو قل، فنفى عنهم الأول بقيام الأدلة على خطئهم الفاحش في كل ما خالفوا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من طريقهم المعنوي الذي اتخذوه ديناً، فهو أشرف من الطريق المحسوس، أتبعه بيان انسلاخهم من الثاني مع التأكيد لانسلاخهم من الأول، قال آمراً للرسول صلى الله عليه وسلم بتنبيههم لأن الإنسان على نوعه أقبل لأنه إليه أميل، إسقاطاً لهم من رتبة الفهم عن الله سبحانه وتعالى لسفول هممهم ولقصور نظرهم مع أنه جعل لهم حظاً ما من الحضور بتأهيلهم لخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لإقامتهم بالمذكور في الآية فيما يرجى معه العلم ويورث الفطنة والفهم: { قل } أي يا أشرف الخلق وأشفقهم عليهم مذكراً لهم بما دفع عنهم الملك من المفسدات وجمع لهم من المصلحات والقوى والعقل ليرجعوا إليه، ولا يعولوا في حال من أحوالهم إلا عليه، وينظروا في لطيف صنعه وحسن تربيته فيمشي كل منهم سوياً: { هو } أي الله سبحانه وتعالى { الذي } شرفكم بهذا الذكر وبين لكم هذا البيان وحده الذي { أنشأكم } أي أوجدكم ودرجكم في مدارج التربية حيث طوركم في أطوار الخلقة في الرحم ويسر لكم بعد خروجكم الخروج اللين حيث كانت المعدة ضعيفة عن أكثف منه.
ولما كان من أعظم النعم الجليلة بعد الإيجاد العقل، أتبعه به، وبدأ بطريق تنبيهه فقال: { وجعل لكم } أي خاصة مسبباً عن الجسم الذي أنشأه { السمع } أي الكامل لتسمعوا ما تعقله قلوبكم فيهديكم، ووحده لقلة التفاوت فيه ليظهر سر تصرفه سبحانه في القلوب بغاية المفاوتة مع أنه أعظم الطرق الموصلة للمعاني إليها { والأبصار } لتنظروا صنائعه فتعتبروا وتزدجروا عما يرديكم { والأفئدة } أي القلوب التي جعلها سبحانه في غاية التوقد بالإدراك لما لا يدركه بقية الحيوان لتتفكروا فتقبلوا على ما يعليكم، وجمعاً لكثرة التفاوت في نور الأبصار وإدراك الأفكار، وهذا تنبيه على إكمال هذه القوى في درك الحقائق بتلطيف السر لتدقيق الفكر، قال الشيخ ولي الدين الملوي: انظر إلى الأفئدة كيف تحكم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في آن واحد، وأن الضدين لا يجتمعان - وغير ذلك مما لا يخفى.
ولما كان التقدير: فمشيتم مشي المكب على وجهه فلم تستعملوا شيئاً من هذه الأسرار الشريفة فيما خلق له، كانت ترجمة ذلك: { قليلاً } وأكد المعنى بما صورته صورة النافي فقال: { ما } ولما زاد تشوف النفس إلى العامل في وصف المصدر دل عليه سبحانه وتعالى بقوله: { تشكرون * } أي توقعون الشكر لمن أعطاكم ما لا تقدرون قدره باستعماله فيما خلق لأجله تدعون أنكم أشكر الناس للإحسان وأعلاهم في العرفان.