التفاسير

< >
عرض

فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ
٢١
أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ
٢٢
فَٱنطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ
٢٣
أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ
٢٤
وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ
٢٥
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوۤاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ
٢٦
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ
٢٧
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ
٢٨
قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
٢٩
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ
٣٠
-القلم

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كانوا لقوة عزمهم على ما أقسموا عليه كأنهم كانوا على ميعاد، سبب عنه قوله: { فتنادوا } أي كانوا كأنهم نادى كل منهم الآخر { مصبحين * } أي في حال أول دخولهم في الإصباح، وفسر التنادي بقوله: { أن اغدوا } أي بكروا جداً مقبلين ومستولين وقادرين { على حرثكم } أي محل فائدتكم الذي أصلحتموه وتعبتم فيه فلا يستحقه غيركم، فكأنهم استبطؤوا قيامهم وغدوهم فكفوا عنه بقوله: { إن كنتم } أي اليوم كوناً هو لكم بغاية الرغبة { صارمين * } أي جاذين جذاذاً ليسلم لكم من غير مشاركة أحد لكم كما تواثقتم عليه، أو جازمين بما عزمتم عليه، وعبر عن إسراعهم إلى الذهاب بقوله: { فانطلقوا } أي بسبب هذا الحث وعقبه كأنهم كانوا متهيئين { وهم } أي والحال أنهم { يتخافتون * } أي يقولون في حال انطلاقهم قولاً هو في غاية السر كأنهم ذاهبون إلى سرقة من دار هي في غاية الحراسة، من الخفوت وهو الخمود، ثم فسر ما يتخافتون به بقوله: { أن لا يدخلنَّها } وأكدوه لأنه لا يصدق أن أحداً يصل إلى هذه الوقاحة وصلابة الوجه وأن جذاذاً يخلو من سائل.
ولما كانت العادة قاضية بأنه لا بد أن ينسى الإنسان شيئاً أو يقفل باباً أو ثغرة يدخل منه وبسببه فقير قالوا: { اليوم } أي في جميع النهار - بما دل عليه نزع الخافض - لتكروا عليه مراراً وتفتشوا فلا تدعوا فيه ثمرة واحدة ولا موضعاً يطمع بسببه أحد في قصدكم { عليكم } أي وأنتم بها { مسكين * } وهو نهي للمسكين في اللفظ للمبالغة في نهي أنفسهم أن لا يدعوه يدخل عليهم، فقال لهم أوسطهم سناً وخيرهم نفساً وأعدلهم طبعاً بما دل عليه ما يأتي: لا تقولوا هكذا واصنعوا من الإحسان ما كان يصنع أبوكم، وكأنه طواه سبحانه لأنه مع الدلالة عليه بما يأتي لم يؤثر شيئاً، وأكد كون انطلاقهم حال الإصباح بقوله: { وغدوا } أي ساروا إليها غدوة { على حرد } لا غيره وهو القصد وشدة الغضب مع الجزم بالأمر واللجاج فيه والسرعة والنكد بالمنع وقلة الخير، من حاردت السنة أي لم يكن فيها مطر، والإبل: منعت درها، وحرد - إذا أسرع { قادرين * } عند أنفسهم وفي زعمهم بدليل عدم استثنائهم فإن الجزم على الفعل في المستقبل فضلاً عن أن يكون مع الخلف فعل من لا كفؤ له، ودل على قربها من منزلهم بالفاء فقال: { فلما رأوها } أي بعد سير يسير وليس للزرع ولا للثمر بها أثر { قالوا } لأنها صارت لسوء حالها من ذلك الطائف بعيدة من حال ما كانت عليه عند تباعدهم وتغيير نياتهم فأدهشهم منظرها وحيرهم خبرها، وأكدوا لأن ضلالهم لا يصدق مع قرب عهدهم بها وكثرة ملابستهم لها وقوة معرفتهم بها فقالوا: { إنا لضالون * } أي عن طريق جنتنا لأن هذه لا تشبهها بوجه فيما كان فيه بالأمس من النضارة وشدة الحمل وحسن الهيئة.
ولما انجلى ما أدهشهم في الحال قالوا مضربين عن الضلال: { بل نحن محرومون * } أي ثابت حرماننا مما كان فيها من الخير الذي لا نغيب عنها إلا سواد الليل فحرمنا الله إياها بما عزمنا عليه من حرمان المساكين لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
وما كان القرع بالمصائب مظنة الرقة والتوبة لمن أريد به الخير، وزيادة الكفر لغيره، استأنف قوله: { قال أوسطهم } أي رأياً وعقلاً وسناً ورئاسة وفضلاً، منكراً عليهم: { ألم أقل لكم } أن ما فعلتموه لا ينبغي، وأن الله سبحانه وتعالى بالمرصاد لمن غير ما في نفسه وحاد.
ولما كان منع الخير ولا سيما في مثل هذا مستلزماً لظن النقص في الله تعالى إما بأنه سبحانه لا يخلف ما حصل التصدق به وإما أنه لا يقدر على إهلاك ما شح الإنسان به، قال مستأنفاً: { لولا } أي هلا ولم لا { تسبحون * } أي توقعون التنزيه لله سبحانه وتعالى عما أوهمه فعلكم، وأقل التسبيح الاستثناء عند الإقسام شكاً في قدرة الإنسان وإثباتاً لقدرة الملك الديان استحضاراً لعظمته سبحانه وتعالى، ودل سياق الكلام على أنهم كانوا متهيئين للتوبة بقوله: { قالوا } من غير تلعثم بما عاد عليهم من بركة أبيهم فقال سبحانه حاكياً عن قولهم: { سبحان ربنا } أي تنزه المحسن إلينا التنزيه الأعظم عن أن يكون وقع منه فيما فعل بنا ظلم، وأكدوا قباحة فعلهم هضماً لأنفسهم وخضوعاً لربهم وتحقيقاً لتوبتهم لأن ما كانوا عليه من الحال يقتضي أن لا يصدق رجوعهم عنه بقولهم: { إنا كنا } أي بما في جبلاتنا من الفساد { ظالمين * } أي راسخين في إيقاعنا الأشياء في غير مواقعها حيث لم نعزم عزماً جازماً على ما كان يفعل أبونا من البر، ثم حيت حلفنا على ترك ذلك ثم حيث لم نرد الأمر إلى الله بالاستثناء حيث حلفنا فإن الاستثناء تنزيه الله عن أن يجري في ملكه ما لا يريد، وأكد توبتهم بقوله مسبباً عن اعترافهم بالظلم: { فأقبل بعضهم } أي في حال مبادرتهم إلى الخضوع { على بعض } ودلت التسوية بين فريقيهم في اللفظ على الاستواء في التوبة { يتلاومون * } أي يفعل كل منهم مع الآخر في اللوم على ما قصده من المنع وترك ما تركوه من الإعطاء والدفع ما يفعله الآخر معه، وينسب النقصان إليه كما هو دأب المغلوبين العجزة.