التفاسير

< >
عرض

فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ
٤٤
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
٤٥
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ
٤٦
أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ
٤٧
فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ
٤٨
-القلم

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما علم بهذا أنه سبحانه المتصرف وحده بما يشاء كيف يشاء من المنع والتمكين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجد من تكذيبهم له - مع إتيانه بما لا يحتمل التكذيب بوجه - من المشقة ما لا يعلم مقداره إلا الله سبحانه وتعالى، وكان علم المغموم بأن له منقذاً يخفف عنه، وكان علمه باقتداره على ما يراد منه أقر لعينه سبب عن كمال اقتداره قوله مخففاً عنه عليه أفضل الصلاة والسلام، لافتاً القول إلى التكلم بالإفراد تنصيصاً على المراد زيادة في تسكين القلب وشرح الصدر: { فذرني } أي اتركني على أي حالة اتفقت { ومن يكذب } أي يوقع التكذيب لمن يتلو ما جددت إنزاله من كلامي القديم على أي حالة كان إيقاعه، وأفرد الضمير نصاً على تهديد كل واحد من المكذبين: { بهذا الحديث } أي بسببه أي خل بيني وبينهم وكل أمرهم إليَّ ولا تكترث بشيء منه أصلاً فإني أكفيكهم لأنه لا مانع منهم فلا تهتم بهم أصلاً.
ولما كان كأنه قيل: وماذا تعمل فيه إذا خليت بينك وبينه؟ أجابه بقوله جامعاً الضمير ليكون الواحد مهدداً من باب الأولى: { سنستدرجهم } أي فنأخذهم بعظمتنا عما قليل على غرة بوعد لا خلف فيه وندنيهم إلى الهلاك درجة درجة بواسطة من شئنا من جنودنا وبغير واسطة بما نواتر عليهم من النعم التي توجب عليهم الشكر فيجعلونها سبباً لزيادة الكفر فنوجب لهم النقم. ولما كان أخذ الإنسان من مأمنه على حالة غفلة بتوريطه في أسباب الهلاك لا يحس بالهلاك إلا وهو لا يقدر على التفصي فيها بوجه قال تعالى: { من حيث } أي من جهات { لا يعلمون * } أي لا يتجدد لهم علم ما في وقت من الأوقات بغوائلها، وذلك أنه سبحانه يغرهم بالإمهال ولا يعاجلهم بالعقاب في وقت المخالفة كما يتفق لمن يراد به الخير فيستيقظ بل يمهلهم ويمدهم بالنعم حتى يزول عنهم خاطر التذكر فيكونوا منعمين في الظاهر مستدرجين في الحقيقة فيقولون: قد قلتم: إن القدر فائض عن القضاء وأن الأعمال قضاء وجزاءها قدر، ويقولون: إن أفعالنا في الدنيا قبيبحة ونحن لا نرى جزاءها إلا ما يسرنا لولا يعذبنا الله بما نقول فأنتم كاذبون في توعدنا فإنا كلما أحدثنا ما تسمونه معصية تجددت لنا نعمة، وذلك كما قادهم إلى تدريجهم وهم في غاية الرغبة، قال القشيري: والاستدراج أن يريد السيىء ويطوي عن صاحبه وجه القصد حتى يأخذه بغتة فيدرج إليه شيئاً بعد شيء.
ولما كان الاستدراج يكون بأسباب كثيرة من بسط النعم وغيرها، فأبرزه بالنون المشتركة بين الاستتباع والعظمة، وكان تأخير الأجل لا يكون إلا لله وحده بغير واسطة شيء قال سبحانه: { وأملي } أي أوخر أنا وحدي في آجالهم وأوسع لهم في جميع تمتعهم ليزدادوا إثماً { لهم } لأنه لا يقدر على مد الأجل وترفيه العيش غيري.
ولما سلاه صلى الله عليه وسلم بهذا غاية التسلية، علل أو استأنف في جواب من لعله يقول: لم يكون أحدهم على هذا الوجه؟ مسمياً إنعامه كيداً: { إن كيدي } أي ستري لأسباب الهلاك عمن أريد إهلاكه وإبدائي ذلك له في ملابس الإحسان وخلع البر والامتنان { متين * } أي في غاية القوة حيث كان حاملاً للإنسان على إهلاك نفسه باختياره وسيعلم عند الأخذ أني لما أمهلته ما أهملته وأن إمهالي إنما كان استدراجاً.
ولما كان هذا القرآن أعظم إحسان، ساقه سبحانه وتعالى إليهم فكان موجباً للشكر عليهم للذي أنزله ولإكرام الآتي به، فكان سبباً لمباشرتهم من التكذيب به والأذى للآتي به إليهم ما يوجب أخذهم، قال دالاً على متانة كيده سبحانه ودقة استدراجه عاطفاً على ما تقديره لبيان أنهم يباشرون ما يهلكهم باختيارهم من غير موجب: أكان تكذيبهم هذا الذكر لشيء فيه يرتابون؟ قوله منكراً عليهم، مبيناً أن تكذيبهم إنما هو لأنه طبع وخبث سجية لا شهوة لهم فيه ولا شبهة: { أم تسئلهم } أنت يا أعف الخلق وأعلاهم همماً { أجراً } على إبلاغك إياهم { فهم } أي فتسبب عن ذلك وتعقب أنهم { من مغرم } كلفتهم به فهم لشدته { مثقلون * } أي واقع إثقالهم به حتى أوجب لهم ذلك الغرم الناقص لأموالهم التقاعد عن التصديق بما جئت به إليهم من عندنا فصاروا يشتهون إقلاعك عنه.
ولما نفى أن يكون تكذيبهم بشهوة دعتهم إلى ذلك نفى أن يكون لهم في ذلك شبهة من شك في الذكر أو حيف في المذكر وأن يكونوا على ثقة أو ظن من سلامة العاقبة فقال: { أم عندهم } أي خاصة { الغيب } أي علموه من اللوح المحفوظ أو غيره { فهم } بسبب ذلك { يكتبون * } أي ما يريدون منه ليكونوا قد اطلعوا على أن هذا الذكر ليس من عند الله أو على أنهم لا درك عليهم في التكذيب به، فقد علم بهذا أنه لا شهوة لهم في ذلك عادية ولا شبهة، وإنما تكذيبهم مجرد خبث طباع، وظلمة نفوس وأمالي فارغة وأطماع.
ولما انتفى جميع ذلك فثبت أنهم على خطر عظيم، وأنه سبحانه المختص بعلم الغيب، وقد أخبر بإهلاكهم من أجله صلى الله عليه وسلم، وأن كفر من كفر وإيمان من آمن بقضائه وتقديره، فكان لا بد منهما، كان ذلك سبباً حاملاً له على الصبر إلى الوقت الذي ضربه سبحانه للفرج، فقال مسبباً عما تقديره: لم يكن له شيء مما ذكر، وإنما هو القضاء والقدر: { فاصبر } أي أوفر الصبر وأوجده على كل ما يقولون فيك وعلى غير ذلك من كل ما يقع منهم ومن غيره من مر القضاء والقدر { لحكم ربك } أي للقضاء الذي قضاه وقدره المحسن إليك الذي أكرمك بما أكرمك به من الرسالة وألزمك بما ألزمك من البلاغ وخذلهم بالتكذيب ومد لهم على ذلك في الآجال وأوسع عليهم النعم وأخر ما وعدك به من النصر.
ولما كان حاصل قصة يونس - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام - أنه استثقل الكرامة بالرسالة لما فيها من الأمور الشديدة من معالجة الخلق فامتحن، كان سبباً لقبوله ذلك، ثم كان سبب إسلام قومه إدناء العذاب منهم وتقريب غشيانه لهم، أشار له بقصته إلى أنه يراد إعلاؤه - صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الأنبياء - وإعلاء أمته على سائر الأمم بما يحتاج إلى صبر على ما يستثقل من ضر أو أمر شديد مر فقال: { ولا تكن } أي ولا يكن حالك في الضجر والعجلة إلى غير ذلك. ولما كان قد افتتح السورة بالنون الذي من مدلولاته الحوت، عبر به هنا تحقيقاً لإرادته فقال: { كصاحب } أي كحال صاحب { الحوت } وهو يونس بن متى عليه الصلاة والسلام { إذ } أي حين، والعامل في هذا الظرف المضاف المحذوف من الحال ونحوها، أو يكون التقدير: لا يكن حالك كحاله يحصل لك مثل ما حصل له حين { نادى } أي ربه المربي له بإحاسنه في الظلمات من بطن الحوت وظلمة ما يحيط به من الجثة وظلمة لحج البحار { وهو } أي والحال أنه عند ندائه { مكظوم * } أي مملوء كرباً وهماً وشدة وغماً محمول على السكوت ببطنه فهو لا ينطق من شدة حزنه، ومحبوس عن جميع ما يريد من التصرف إلى أن ألجأه سبحانه بذلك إلى الدعاء والتضرع، من الكظم، وهو السكوت عن امتلاء وتجرع للمرارات، ومن هذا كظمت السقاء أي شددته وملأته فكان مكظوماً، والمكظوم: المكروب - كأنه قد أخذ بكظمه وهو مخرج نفسه.