التفاسير

< >
عرض

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ
٢٥
وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ
٢٦
يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ
٢٧
مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ
٢٨
هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ
٢٩
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ
٣٠
ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ
٣١
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ
٣٢
إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ
٣٣
-الحاقة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كانت العادة جارية بأن أهل العرض ينقسمون إلى قسمين: مقبول ومردود، وذكر سبحانه وتعالى المقبول بادئاً به تشويقاً إلى حاله وتغبيطاً بعاقبته وحسن مآله، أتبعه المردود تنفيراً عن أعماله بما ذكر من قبائح أحواله فقال: { وأما من } ولما كان الدال على المساءة الإيتاء على وجه قبيح، لا تعيين المؤتي، قال بانياً للمفعول لذلك وللدلالة على ذل الأخذ وعدم قدرته على الامتناع عن شيء يسوءه: { أوتي كتابه } أي صحيفة أعماله - أعاذنا الله من ذلك { بشماله فيقول } أي لما يرى من سوء عاقبته التي كشف له عنها الغطاء حتى لم يشك فيها لما يرى من قبائحه التي قدمها، وكل ما يأتي مما يوهم سكتة في ذلك اليوم فمن باب المكابرة والمدافعة بالباطل على ما كان عليه في الدنيا { يا ليتني } تمنياً للمحال، وجرى عن نسق ما مضى في البناء للمفعول الدال على ذله وعدم جبلته فقال: { لم أوت } أي من مؤت ما { كتابيه * } أي هذا الذي ذكرني بخبائث أعمالي وعرفني جزاءها { ولم } أي ويا ليتني لم { أدر } ولو حاولت الدراية { ما } أي حقيقة { حسابيه * } من ذكر العمل وذكر جزائه، بل استمريت جاهلاً لذلك كما كنت في الدنيا. ولما تمنى هذين الشيئين، استأنف مراده بهما فقال لأنه رأى أن ما يستقبله شر مما كان فيه من البرزخ: { يا ليتها } أي الموتة التي منها { كانت القاضية * } أي الباتة الجازمة الملزمة لدوام الموت الخاتمة عليها حتى لا يكون بعدها بعث ولا شيء غير الموت كما كنت أعتقد في الدنيا؛ قال الإمام الرازي: وفي الحديث "تمنوا الموت" أي إذ ذاك ولم يكن في الدنيا شيء أكره منه عندهم.
ولما كان التمني مفهماً لأنه كان له ضد ما تمناه من البعث على ما كانت تخبره به الرسل ومن الحساب الذي هو سر البعث وخالصه، وقد كان يقول: إنه يتخلص منه، على تقدير كونه، بماله وجاهه قال معللاً لتمنيه: { ما أغنى } نافياً تأسفاً على فوات ما كان يرجو من نفعه، والمفعول على هذا التقدير محذوف للتعميم، أو مستفهماً استفهام إنكار على نفسه وتوبيخ حيث سولت له ما أثمر له كل سوء وكل محال منازعة للفطرة الأولى المؤيدة بما أخبرت به الرسل حتى أوقعه ذلك التسويل في الهلكة { عني ماليه * } أي الذي منعت منه حق الله وتعظمت به على عباده. وهذا النفي للإغناء سائغ مفهوم على كل من تقريري النفي والاستفهام.
ولما كان المال سبب الوصول إلى السلطان، قال نافياً لما أوصله إليه ماله شارحاً لعدم إغنائه، { هلك عني } أي مجاوزاً لي حتى كأني لم أكن فيه ساعة قط { سلطانيه * } أي تسلطي على الدعاة إلى الله بالشبه الباطلة التي كان يطلق اللسان بها فأساعده عليها مع ظهور بطلانها الملك الذي أوصل إليه المال فعاد لأن ذلك الملك الأعظم هلك والمساعد أبعد مباعد.
ولما كان كأنه قيل: هذا ما قال، فما يقال؟ أجيب بأنه يقال للزبانية تعذيباً لروحه بالتوبيخ والأمر بالتعذيب على رؤس الأشهاد: { خذوه } أي أيها الزبانية الذين كان يستهين بهم عند سماع ذكرهم.
ولما كان الأخذ دالاً على الإهانة الناشئة عن الغضب، سبب عنه قوله: { فغلوه * } أي اجمعوا يديه إلى عنقه ورجليه من وراء قفاه إلى ناصيته.
ولما كان الغل لما بعده من العقاب، قال معظماً رتبة عقابه في الشدة والهول بالتعبير بأداة التراخي: { ثم الجحيم } أي النار العظمى التي تجمح على من يريد دفاعاً وتحجم عنها من رآها لأنها في غاية الحمو والتوقد والتغيظ والتشدد { صلوه * } أي بالغوا في تصليته إياها وكرروها لغمسه في النار كالشاة المصلية مرة بعد أخرى ولا تصلوه في أول أمره غيرها لأنه كان لا يألو جهداً أن يحرق قلوب النصحاء بأشد ما يقدر عليه من الكلام وغيره، وكان يتعظم على الضعفاء، فناسب أن يصلي أعظم النيران، وعبر أيضاً بأداة التراخي لعلو رتبة مدخولها، فقال مؤذناً بعدم الخلاص: { ثم في سلسلة } أي عظيمة جداً لا ما هو دونها.
ولما قدمها دلالة على الاهتمام بها وعلى تخصيصها لشدة مخافتها، عرف بعظيم هولها وشدة فظاعتها ليجتمع المفهوم والمنطوق على تهويلها فقال: { ذرعها } أي في أيّ شيء فرضت من طول أو عرض { سبعون ذراعاً } يحتمل أن يكون هذا العدد حقيقة، وأن يكون مبالغة، والذي يدل على أنها للمبالغة ما رواه الترمذي - وقال: إسناده حسن - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لو أن رصاصة مثل هذه - وأشار إلى مثل الجمجمة - وأرسلت من السماء إلى الأرض - وهي مسيرة خمسمائة سنة - لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها وقعرها" وأشار سبحانه إلى ضيقها على ما تحيط به من بدنه بتعبيره بالسلك فقال: { فاسلكوه * } أي أدخلوه بحث يكون كأنه السلك - أي الحبل - الذي يدخل في ثقب الخرزة بعسر لضيق ذلك الثقب إما بإحاطتها بعنقه أو بجميع بدنه بأن تلف عليه فيصير في غاية الضنك والهوان لا يقدر على حركة أصلاً، وهذا تعذيب القالب لأنه أفسد القلب بعدم الإيمان والقالب بعدم الأعمال.
ولما ذكر على الإجمال عقابه أتبعه أسبابه، فقال بادئاً بأعظمها مؤكداً لأن كل كافر حتى المعطل يقر بالله تعالى نوع إقرار ويدعي الإيمان به نوع ادعاء، لأنه لا يقدر على غير ذلك لما له سبحانه من غلبة الظهور وانتشار الضياء والنور: { إنه كان } أي جبلة وطبعاً وإن أظهر شيئاً يلبس به على الضعفاء ويدلس على الأغنياء { لا يؤمن } أي الآن ولا في مستقبل الزمان { بالله } أي الملك الأعلى الذي يعلم السر وأخفى.
ولما كانت عظمة الملك موجبة لزيادة النكال لمن يعانده على قدر علوها، وكان الذي أورث هذا الشقي هذا الخزي هو تعظمه على أمر الله وعباده، أشار إلى أنه لا يستحق العظمة غيره سبحانه فقال: { العظيم * } أي الكامل العظم.