التفاسير

< >
عرض

قَالُوۤاْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
١٢٩
وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
١٣٠
فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَلاۤ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
١٣١
وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
١٣٢
-الأعراف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما تشوف السامع إلى ما كان من جوابهم، أشار تعالى أن قلقهم كان وصل إلى حد لا صبر معه بقوله مستأنفاً: { قالوا } ولما كان الموجع هو الأذى، لا كونه من معين، بنوا للمفعول قولهم: { أوذينا } أي بالقتل والاستعباد.
ولما كان أذاهم غير مستغرق للزمان، أثبتوا الجارّ فقالوا: { من قبل أن تأتينا } أي كما تعلم { ومن بعد ما جئتنا } أي فما الذي أفادنا مجيئك { قال } مسلياً لهم وداعياً ومرجياً بما رمز إليه من قبل { عسى ربكم } أي الذي أحسن إلى آبائكم بما تعرفون وإليكم بإرسالي إليكم { أن يهلك عدوكم } فلا يهولنكم ما ترون { ويستخلفكم } أي ويوجد خلافتكم لهم متمكنين، لا يحكم عليكم غيركم { في الأرض } أي جنسها إن كنتم متقين؛ ثم سبب عن الاستخلاف قوله مذكراً لهم محذراً من سطواته سبحانه: { فينظر } أي وأنتم خلفاء متمكنون { كيف تعملون* } أي يعاملكم معاملة المختبر وهو في الأزل أعلم بما تعملون منكم بعد إيقاعكم للأعمال، ولكنه يفعل ذلك لتقوم الحجة عليكم على مجاري عاداتكم.
ولما رجاهم موسى عليه السلام بذلك، أخبر سبحانه أنه فعل ما أخبرهم به، فذكر مقدماته فقال: { ولقد } أي قال لهم ما قال والحال أنا وعزتنا قد { أخذنا } أي قهرنا { آل فرعون } ولينّا عريكتهم وسهلنا شكيمتهم { بالسنين } أي بالقحط والجوع، فإن السنة يطلق بالغلبة على ذلك كما تطلق على العام؛ ولما كانت السنة تطلق على نقص الحبوب، صرح بالثمار فقال، { ونقص من الثمرات } أي بالعاهات إن كان الماء كثيراً، أو السنة للبادية والنقص للحاضرة { لعلهم يذكرون* } أي ليكون حالهم حال من يرجو ناظره أن يتذكر في نفسه ولو بأدنى وجوه التذكر - بما أشار إليه الإدغام، فإن الضر يزيل الشماخة التي هي مظنة الوقوف مع الحظوظ ويوجب للإنسان الرقة فيقول: هذا إنما حصل لي بسبب تكذيبي لهذا الرسول وعبادتي من لا يكشف السوء عن نفسه ولا غيره.
ولما لم يتذكروا ولا لانوا، سبب عن أخذهم قوله معرفاً بغباوتهم معبراً في الخير بأداة التحقيق إشارة إلى أنه أغلب من الشر، حثاً على الشكر: { فإذا } أي فما تسبب عن ذلك إلا أنهم كانوا إذا { جاءتهم الحسنة } أي الحالة الكاملة التي يحبونها من الخصب وغيره، وعرفها بعد تحقيقها إشارة إلى إكمالها { قالوا لنا هذه } أي نحن حقيقون بها، ودل على أن الخير أكثر من غيره بقوله بأداة الشك مع التنكير: { وإن تصبهم سيئة } أي حالة يكرهونها.
ولما كانت افصابة بالسيئات تخصهم ولا يلحق بني إسرائيل منها شيء، فكان إظهارهم للتطير بهم ظاهراً في ردهم عليهم وتكذيبهم فيه، أشار سبحانه بإدغام التاء إلى أنهم كانوا إنما يدسونه إلى من يمكنهم اختداعه من الجهلة والأغبياء على وجه الحلية والخفاء، بخلاف ما في يس فقال: { يطيروا } أي يتشاءموا { بموسى ومن معه } أي بأن يقولوا: ما حصل لنا هذا السوء إلا بشؤمهم، وهو تفعل من الطير، وهو تعمد قصد الطير لأن يطير للتفاؤل به خير أو شر، وأصله أن العرب كانوا إذا مر الطائر من ميامنهم إلى جهة مياسرهم قالوا: بارح، أي مشؤوم، من البرح وهو الشدة، فإذا طار من جهة اليسار إلى جهة اليمين عدوه مباركاً، قالوا: من لي بالسانح بعد البارح، أي بالمبارك بعد المشؤوم، وعرف أن المراد هنا التشاؤم لاقترانه بالسيئة.
ولما كذبوا في الموضعين، قال مستأنفاً على وجه التأكيد: { ألا إنما طائرهم } أي قدرهم الذي سبق في الأزل من الخير والشر فلا يزداد ولا ينقص { عند الله } أي الملك الذي لا أمر لغيره وقد قدر كل شيء، فلا يقدر على المجيء به غيره أصلاً { ولكن أكثرهم لا يعلمون* } أي لا علم لهم أصلاً فهم لا يهتدون إلى ما ينفعهم ويظنون أن للعباد مدخلاً في ذلك، فلذلك تراهم يضيفون الأشياء إلى أسباب يتوهمونها.
ولما كان هذا الذي قالوه يدل على سوء المزاج وجلافة الطباع بما لا يقبل العلاج، أتبعه ما هو شر منه، وهو أنهم جزموا بأنه كلما أتاهم شيء في المستقبل قابلوه بالكفر فقال: { وقالوا مهما } هي مركبة من "ما" مرتين: الأولى الشرطية والثانية تأكيد. قلبت ألف الأولى هاء استثقالاً، قيل: مه هي الصوت الذي يكون للكف وما الشرطية، أي كف عنك ما أنت فيه. ثم استأنفوا "ما" { تأتنا به } أي في أيّ وقت وعلى أيّ حالة كان؛ ثم بينوا المأتي به بقولهم: { من آية } أي علامة على صدقك، وهذا على زعمه، ولذلك عللوه بقولهم: { لتسحرنا } أي لتخيل على عقولنا { بها } وتلفتنا عما نحن عليه إلى ما تريد فنحن نسميها سحراً وأنت تسميها آية؛ ثم أجابوا الشرط بقولهم: { فما نحن } أي كلنا { لك } أي خاصة { بمؤمنين* } أي من أن نكذبك.