نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
ولما صور بهذا
جلاله، وقرر عظمته وكماله،
باتصافه بجميع الصفات
العلى التي
منها القدرة التي تكفهم عنه؛
كرر التنفير عن أندادهم في
أسلوب آخر تأكيداً للمعنى
السابق بزيادة بالغة في
العجز وهو تصويب النظر
من غير إبصار، مع أن الأول
للتقريع،
وهذا الفرق بين من يعبد
بحق ومن يعبد بباطل
ليرجعوا عن غيهم وعنادهم،
فقال مبيناً
أنهم ليسوا في شيء من
صفاته مصرحاً بنفي النصرة
التي أثبتها له عنهم مع
المواجهة
بالخطاب الذي هو أفظع في
الجواب: { والذين تدعون }
أي تديمون دعاءهم { من
دونه }
- فإنهم يدعونه سبحانه في
بعض الأوقات - أوتدعونهم
تاركين له { لا يستطيعون
نصركم } أي بوجه من
وجوه النصرة بدليل عجزكم
عني وأنا وحدي وأنتم أهل
الأرض
{ ولا أنفسهم ينصرون* }
بدليل أن الكلب يبول عليهم
فلا يمنعونه.
ولما كان دعاء الجماعة
أقرب إلى السماع من دعاء
الواحد، نسق على ما قبله
قوله: { وإن تدعوهم } أي
يا من هم أضل منهم وأعجز
{ إلى الهدى } أي إلى الذي
هو
أشرف الخلال ليهتدوا في
نصر أنفسهم أو غير ذلك { لا
يسمعوا } أي شيئاً من ذلك
الدعاء ولا غيره؛ ولما كان
حالهم في البصر بالنسبة إلى
كل أحد على حد سواء، قال
مفرداً للمخاطب: { وتراهم }
أي أيها الناظر إليهم
{ ينظرون إليك } أي كأنهم
ينظرون لما صنعوا لهم من
الأعين { وهم لا يبصرون* }
أي نوعاً من الإبصار، وما
أشبه
مضمون هذه الآيات بما في
سفر أنبياء بني إسرائيل في
نبوة أشعياً: هكذا يقول الرب
ملك إسرائيل ومخلصه: أنا
الأول وأنا الآخر، وليس إله
غيري. ومن مثلي يدعي
ويظهر
قوته ويخبر بما كان منذ
بسطت الدنيا إلى الأبد،
والآيات القديمة تظهر
للشعوب، فلا
يفزعون ولا يخافون، ألم
أسمعكم منذ أول الدهر
وأظهرها لكم وأبين لكم
الأمور وأنتم
شهدائي أن ليس إله غيري،
وليس عزيز منيع إلا وأنا
أعز منه، لأن جميع الصناع
الذين يعملون الأصنام إنما
عملهم باطل وليس في
أعمالهم منفعة، وأن الصناع
الذين يعملونها
هم يشهدون عليها أنها لا
تبصر ولا تسمع ولا تعلم،
لذلك يخزي جميع صناع
الأوثان
المسبوكة لأن جميع ما
صنعوا لا عقل له، فيجمعون
كلهم ويخزون ويفتضحون
لأن
النجار نحت بحديده وهيأ
صنماً بمنقاره وسدده بقوة
ساعده وجاع وعطش في
عمله.
والنجار اختار خشبة وقدرها
وألصق بعضها ببعض
بالغراء وركبها وعملها
كشبه الإنسان،
أقام من الخشب الذي قطع
من الغيضة كشبه رجل الذي
نبت من شرب المطر ليصير
للناس للوقود فعملوه لهم
إلهاً وعبدوه وسجدوا له،
الذي ينصفه خبزوا لهم خبزاً
وشووا
لهم لحماً على جمرة وأكلوا
وشربوا واصطلوا وقالوا: قد
حمينا لأنا قد أوقدنا ناراً
واصطلينا، والذي بقي منه
اتخذوه إلهاً منحوتاً وسجدوا
له وصلوا وقالوا: نجّنا لأنك
إلهنا. ولم يخطر على بالهم
فكر أن يقولوا: إنا قد أوقدنا
نصفه بالنار، وخبزنا خبزنا
وشوينا على جمره اللحم
وأكلنا، ولم يعلموا أن باقيه
عمل منه صنم وسجدوا له،
لأن قلوبهم متمرغة في
رماده، وضلت عقولهم فلا
يقدرون ينجون أنفسهم ولا
يقولون:
إن أيادينا عملت الباطل
واتخذت الكذب، ثم قال:
أليس أنا الرب منذ أول،
وليس إله
غيري ولا مخلص سواي،
ادنوا إليّ يا جميع الذين في
أقطار الأرض لتنجوا لأني أنا
الرب وليس إله غيري،
حلفت بيميني وأخرجت كلمة
صدق ولست أرجع عنها لأنه
لي
تنحني كل ركبة، وبي يحلف
كل إنسان ويقول: إنما البر
بالرب، وإليه تدنو الأعزاء
ويخزى جميع المبغضين،
وبي يمتدح ويتبرر، بمن
شبهتموني؟ وإلى من
نسبتموني؟
بالضالين الذين أخرجوا
الذهب من أكياسهم ووزنوا
الفضة بالميزان واكتروا
الصناع حتى
عملوا لهم آلهة يسجدون لها
ويحملونها على أكتافهم
ويمشون بها ثم يصلون لها
ويدعونها لا تجيبهم ولا
تخلصهم من شدائدهم ثم
يحملونها أيضاً ويردونها إلى
مواضعها، اذكروا هذه
الأشياء واعقلوا أيها الأثمة
واخطروها على قلوبكم
وتذكروا الأيام
التي كانت من الابتداء، إني
أنا الله الخالق وليس إله
غيري ولا مثلي،فأنا أظهر
العتيدات وأخبر بالذي يكون
قبل أن يكون، وأثبت رأيي
وأكمل إراداتي وهواي،
وأدعو
من في المشارق فيأتون
أسرع من الطير، وأتاني
الرجل الذي قد عمل مسرتي
من الأرض
البعيدة، لأني أنا إذا تكلمت
بشيء فعلته. أنا خلقت وأنا
أخلق؛ وفي الزبور في
المزمور
الثالث عشر بعد المائه: إلهنا
في الأرض، كل ما يشاء
يصنع، أوثان الأمم ذهب
وفضة
عمل أيدي البشر، لها أفواه
ولا تتكلم، لها أعين ولا
تنظر، لها آذان ولا تسمع،
وآناف
ولا تشم، وأيد ولا تلمس،
وأرجل ولا تمشي، ولا
صوت بحناجرها ولا روح
في
أفواهها، فليكن صانعوها
مثلها وجميع من يتوكل
عليها - انتهى.
ولما كان محصل أمرهم
الإعراض عما أتاهم
بالتكذيب والإقبال على ما لم
يأتهم
بالطلب والتعنت كالسؤال عن
الساعة، والأمر بالمنكر من
الشرك وما يلزم منه من
مساوي الأخلاق، والنهي
عن المعروف الذي هو
التوحيد وما يتبعه من
محاسن الشرع،
وذلك هو الجهل، وختم ذلك
بالإخبار بأنه سبحانه أصلح
له الدين بالكتاب، والدنيا
بالحفظ من كل ما ينتاب،
وكان حالهم ربما كان موئساً
من فلاحهم، مفتراً عن
دعائهم
إلى صلاحهم، كان الداعي
لهم صلى الله عليه وسلم
كأنه قال: فما أصنع في
أمرهم؟ فأجابه بالتحذير من
مثل حالهم والأمر بضد قالهم
وفعالهم والإبلاغ في الرفق
بهم فقال: { خذ العفو } أي
ما أتاك من الله والناس بلا
جهد ومشقه، وهذا المادة
تدور على السهولة، وتارة
تكون
من الكثرة وتارة من القلة،
فعفا المال، أي كثر، فصار
يسهل إخراجه ويسمح به
لزيادته
عن الحاجة، وعفا المنزل،
أي درس، فسهل أمره حتى
صار لا يلتفت إليه.
ولما أمره بذلك في نفسه،
أمره به في غيره فقال:؛
{ وأمر بالعرف } أي بكل ما
عرفه الشرع وأجازه، فإنه
من العفو سهولة وشرفاً،
وقد تضمن ذلك النهي عن
المنكر
فأغنى بذلك عن ذكره لأن
السياق للمساهلة؛ ولما أمره
بالفعل في نفسه وغيره،
أتبعه
الترك فقال: { وأعرض عن
الجاهلين* } أي فلان تكافئهم
بخفتهم وسفههم ولا تمارهم
فإن ذلك أسهل من غيره،
وذلك بعد فضيحتهم بالدعاء،
وذلك - لأن محط حالهم
اتباع
الهوى فيدعوهم إلى تكلف
ضد هذه الخصال، وفيه
إشارة إلى النهي عن أن
يذهب نفسه
عليهم حسرات مبالغة في
الشفقة عليهم، وعن جعفر
الصادق أنه ليس في القرآن
آية
أجمع لمكارم الأخلاق منها.
ولما كان الشيطان بعداوته
لبني آدم مجتهداً في التنفير
من هذه المحاسن والترغيب
في أضدادها، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم قد نزع
منه حظ الشيطان بطرح تلك
العلقة السوداء من
قبله إذ شق جبرائيل عليه
السلام صدره وغسل قلبه
وقال: هذا حظ الشيطان
منك؛ شرع
لأمته ما يعصمهم منه عند
نزغه مخاطباً له بذلك ليكون
أدعى لهم إلى القبول وأجدر
باشتداد الخوف المقتضي
للفرار المثمر للنجاة، لأنهم
إذا علموا قصد الشيطان لمن
نزع
منه حظه وعصم من كل
محنة علموا أنه لهم أشد
قصداً وأعظم كيداً وصداً،
فقال مؤكداً
بأنواع التأكيد إشارة إلى
شدة قصد الشيطان للفتنة
وإفراطه في ذلك، ليبالغ في
الحذر منه
وإن كان قصده بذلك في
محل الإنكار لعلمه بالعصمة
- لذلك عبر بأداة الشك
إشارة
إلى ضعف كيده للنبي صلى
الله عليه وسلم، لأن الله
تعالى أعانه على قرينه
فأسلم: { وإما } أي إن،
وأكدت بـ { ما } إثباتاً للمعنى
ونفياً لضده { ينزغنك } أي
ينخسنك نخساً عظيماً { من
الشيطان نزغ }
أي نخس بوسوسته من
شأنه أن يزعج فيسوق إلى
خلاف ما تقدم من
المحاسن في نحو غضب من
جهل الجاهل وسفه السفيه
أو إفراط في بعض أوجه كما
تساق الدابة بما تنخس به،
فيفسر ويجعل النخس ناخساً
إشارة إلى شدته { فاستعذ }
أي فأوجد أو اطلب العوذ
وهو الاعتصام { بالله } أي
الذي له جميع العز والعظمة
والقدرة
والقهر لا نقطاعك عن
الإخوان والأنصار إليه فلا
ولي لك ولا ناصر إلا هو،
فإنه إذا أراد
إعاذتك ذكرك من عزيز نعمه
وشديد نقمه ما يريد عن
الفساد رغباً ورهباً، والآية
ناظرة
إلى قوله تعالى أولها { {
لأقعدن لهم صراطك
المستقيم } }
[الأعراف:
16].
ولما أبطل تعالى أن يكون
لشركائهم سمع أو علم،
صار إثبات ذلك له كافياً في
اختصاصه به من غير حاجة
إلى الحصر المتضمن لنفيه
عن غيره لتقدمه صريحاً
بخلاف
ما في فصلت، فقال معللاً:
{ إنه سميع } أي بالغ السمع
فهو يسمع استعاذتك فيجيبك
إن شاء { عليم* } شامل العلم
بما تريد ويريد منك عدوك،
فلا يعجزه شيء، وختم
بصفة العلم في الموضعين
لأن الوسوسة من باب ما
يعلم، وختمها في سورة
المؤمن
بالبصير المشتق من البصر
والبصيرة، لأن المستعاذ منه
أمر الناس ومنه ما يبصر.
ولما كان لا يحصل للنبي
صلى الله عليه وسلم إلا
شيء خفيف جداً كما نبه
عليه بالنزغ، وهو ليس
بمحقق كما نبهت عليه أداة
الشك، وكان لا يستعيذ بالله
إلا المتقون فكان كأنه قيل:
افعل ذلك عند أول نزغه
لتكون من المتقين، علله
بقوله: { إن الذين اتقوا } أي
حصل
لهم هذا الوصف، وحقق أذاه
لهم بأداة التحقيق - بخلاف
ما مضى عند إفراد الخطاب
للنبي صلى الله عليه وسلم -
فقال: { إذا مسهم طائف }
أي طواف على أنه مصدر،
ويجوز أن يكون تخفيف
طيّف كميت وهو بمعنى
قراءة طائف على أنه فاعل
كميت ومائت، ويجوز أن
يكون مصدراً أيضاً، وهو
إشارة إلى أن الشيطان دائر
حولهم لا يفارقهم، فتارة
يؤثر فيهم
طوافه فيكون قد مسهم مساً
هو أكبر من النزغ لكونه
أطاف بهم من جميع
الجوانب،
وتارة لا يؤثر { من
الشيطان } أي البعيد من
الرحمة المحترق باللعنة
{ تذكروا } أي
كلفوا أنفسهم ذكر الله بجميع
ما ينفعهم في ذلك إقداماً
وإحجاماً.
ولما كانوا بإسراع التذكر
كأنهم لم يمسهم شيء من
أمره، أشاره إلى ذلك
بالجملة
الاسمية مؤكداً لسرعة
البصر بإذا الفجائية: { فإذا
هم } أي بنور ضمائرهم
{ مبصرون * } أي ثابت
إبصارهم فلا يتابعون
الشيطان، فإن المتقي من
يشتهي فينتهي، ويبصر
فيقصر، وفي ذلك تنبيه على
أن من تمادى مع الشيطان
عمي لأنه ظالم، والظالم هو
من يكون كأنه في الظلام.