التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٤٧
وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ
٤٨
أَهَـۤؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ ٱللَّهُ بِرَحْمَةٍ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ
٤٩
وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٥٠
ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا فَٱلْيَوْمَ نَنسَـٰهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـٰذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَٰتِنَا يَجْحَدُونَ
٥١
-الأعراف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما دل ما تقدم على أنهم مقبلون على الجنة وأهلها، قال مرغباً مرهباً: { وإذا صرفت } بناه للمفعول لأن المخيف لهم الصرف لا كونه من معين { أبصارهم } أي صرفها صارف من قبل الله بغير اختيار منهم { تلقاء } أي وجاه { أصحاب النار } أي بعد استقرارهم فيها فرأوا ما فيها من العذاب { قالوا } أي أصحاب الأعراف حال كونهم لم يدخلوها وهم يخافون مستعيذين منها { ربنا } أي أيها المحسن إلينا في الدنيا بكل إحسان وفي الآخرة بكونك لم تدخلنا إلى هذا الوقت إلى النار { لا تجعلنا مع القوم الظالمين* } بأن تدخلنا مدخلهم.
ولما تقدم كلامهم لأهل الجنة بالسلام، أخبر أنهم يكلمون أهل النار بالتوبيخ والملام فقال: { ونادى } وأظهر الفاعل لئلا يلبس بأهل الجنة فقال { أصحاب الأعراف } أي الحال صرف وجوهم إلى جهة أهل النار { رجالاً } أي من أهل النار { يعرفونهم } أي بأعيانهم، وأما معرفتهم إجمالاً فتقدم، وإنما قال هنا: { بسيماهم } لأن النار قد أكلتهم وغيرت معالمهم مع تغيرهم بالسمن وسواد الوجوه وعظم الجثث ونحوه { قالوا } نفياً أو استفهاماً توبيخاً وتقريعاً { ما أغنى عنكم جمعكم } أي للمال والرجال { وما كنتم تستكبرون* } أي تجددون بهما هذه الصفة وتوجدونها دائماً في الدنيا زاعمين أنه لا غالب لكم؛ ثم زادوا في توبيخهم وتقريعهم وتحزينهم وتأسيفهم والإنكار عليهم بقولهم مشيرين إلى ناس كانوا يستضعفونهم من أهل الجنة ويحقرونهم: { أهؤلاء } وكأنه يكشف لهم عنهم حتى يروهم زيادة في عذابهم { الذين أقسمتم } أي في الدنيا { لا ينالهم الله } أي الذي له صفات الكمال { برحمة } فكيف بكمال الرحمة.
ولما كان التصريح بأمرهم بدخول الجنة إنكاء لأهل النار لأنه أنفى لما أقسموا عليه، قالوا: { ادخلوا } أي قال الله لهم أو قائل من قبله ادخلوا { الجنة لا خوف عليكم } أي من شيء يمكن توقع أذاه { ولا أنتم تحزنون* } أي يتجدد لكم حزن في وقت من الأوقات على شيء فات لما عندكم من الخيرات التي لا تدخل تحت الوصف.
ولما تقدم نداء أصحاب الجنة عندما حصل لهم السرور بدخولها لأصحاب النار بما يؤلم وينكي، وختم بهذه الرحمة التي تطمع المحروم فيما يسر ويزكي، أخبر أن أصحاب النار ينادون أصحاب الجنة عندما حصل لهم من الغم بدخولها، لكن بما شأنه أن يرقق ويبكي، فقال ما يدل على أن عندهم كل ما نفي عن أهل الجنة في ختام الأية السالفة من الخوف والحزن: { ونادى أصحاب النار } أي بعد الاستقرار { أصحاب الجنة } بعد أن عرفهم إياهم وأمر الجنة فتزخزفت فكان ذلك زيادة في عذابهم؛ ثم فسر المنادى به فقال { أن أفيضوا علينا من الماء } أي لأنكم أعلى منا، فإذا أفضتموه وصل إلينا، وهذا من فرط ما هم فيه من البلاء، فإن بين النار والجنة أهوية لا قرار لها ولا يمكن وصول شيء من الدارين إلى الأخرى معها.
ولما كانت الإفاضة تتضمن الإنزال قالوا: { أو } أي أو أنزلوا علينا { مما رزقكم الله } أي الذي له الغنى المطلق، من أيّ شيء هان عليكم إنزاله { قالوا } أي أصحاب الجنة { إن الله } أي الذي حاز جميع العظمة { حرمهما } أي منعهما بتلك الأهوية وغيرها من الموانع { على الكافرين* } أي الساترين لما دلهم عليه قويم العقل وصريح النقل { الذين اتخذوا } أي تكلفوا غير ما دلهم عليه العقل الفطري حين نبه بالعقل الشرعي بأن أخذوا { دينهم } بعد ما محقوا صورته وحقيقته كما يمحق الطين إذا اتخذته خزفاً فصار الدين { لهواً } أي اشتغالاً بما من شأنه أن يغفل وينسى عن كل ما ينفع من الأمور المعجبة للنفس من غير نظر في عاقبة، فجوزوا من جنس عملهم بأن لم ينظر لهم في إصلاح العاقبة.
ولما قدم ما هو أدعى إلى الاجتماع على الباطل الذي هو ضد مقصود السورة من الاجتماع على الجد وأدعى إلى الغفلة، وكان من شأن الغفلة عن الخير أن تجر إلى استجلاب الأفراح والانهماك في الهوى، حقق ذلك بقوله: { ولعباً } أي إقبالاً على ما يجلب السرور ويقطع الوقت الحاضربالغرور، ولذلك أتبعه قوله: { وغرتهم } أي في فعل ذلك { الحياة الدنيا } أي بما فيها من الأعراض الزائلة من تأميل طول العمر والبسط في الرزق ورغد العيش حتى صاروا بذلك محجوبين عن نظر معانيها وعما دعا إليه تعالى من الإعراض عنها فلم يحسبوا حساب ما وراءها. ولما كان تركهم من رحمته سبحانه مؤبداً، أسقط الجار { فاليوم } أي فتسبب عن ذلك أن في هذا اليوم { ننساهم } أي نتركهم ترك المنسي { كما } فعلوا هم بأنفسهم بأن { نسوا } أي تركوا { لقاء يومهم هذا } فلم يعدوا له عدته { وما } أي وكما { كانوا } أي جبلة وطبعاً { بآياتنا } على ما لها من العظمة بنسبها إلينا { يجحدون* } أي ينكرون وهم يعرفون حقيقتها لأنها في غاية الظهور.