التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ
٩٠
فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
٩١
ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ ٱلْخَاسِرِينَ
٩٢
فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَـٰلَـٰتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءَاسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَٰفِرِينَ
٩٣
وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ
٩٤
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
٩٥
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٩٦
-الأعراف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما انقضى جواب الفصل المبني على إبطال الفضل وإظهار العدل، ذكر سبحانه قولهم بعده عاطفاً له على ما مضى من قولهم أو قوله، كان الأصل أن يقال: وقالوا، ولكنه أظهر الوصف بالشرف إشارة إلى أنه الذي حملهم على نتيجة الاستكبار وهي الكفر، ثم لم يرضوا به حتى أضافوا إليه تكفير غيرهم فقال: { وقال الملأ } أي الأكابر { الذين } يملؤون العيون مرأى والقلوب مهابة، فحلمهم التكبر على أنهم { كفروا }.
ولما كان من المستبعد أن يكون أقاربه يتنكبون عما أتاهم به من الخير لحسد أو اتهام أو غيرها، فكان ربما ظن أن هؤلاء الذين يعاملونه بهذه الغلطة أجانب عنه، قال: { من قومه } بياناً لأن الفضل بيد الله فقد يؤتيه البغيض البعيد ويمنعه الحبيب القريب
{ { إنك لا تهدي من أحببت } [القصص: 56]، ووطؤوا للقسم بقولهم: { لئن اتبعتم } أي أيها الأتباع ممن لم يؤمن بعد { شعيباً } أو تركتم ما أنتم عليه مما أورثه لكم آباؤكم؛ واجاب القسم بما سد عن جواب الشرط بقوله: { إنكم إذاً } أي وقت اتباعه { لخاسرون* } أي لأنكم استبدلتم بدين الآباء غيره وحرمتم فوائد البخس والتطفيف وقط السبل.
ولما كمل إثمهم بالضلال والإضلال، استحقوا الأخذ فقال: { فأخذتهم } أي فتسبب عن أقوالهم هذه وأفعالهم أنه أخذتهم { الرجفة } أي الزلزلة العظيمة في القلوب أو الديار التي كانت سبباً للصيحة أو مسببة عنها { فأصبحوا في دارهم } أي مساكنهم، وتقدم سر توحيدها { جاثمين* } أي باركين على الركب أو لازمين أمكنتهم لا حراك بهم، وهذا دون ما كان النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت الملائكة بحنين، فكان الكفار يسمعون في أجوافهم مثل وقع الحصاة في الطست، ودون ما كان يجد مخالفه من الرعب من مسيرة شهر من ورائه وشهر من أمامه، ولكونه كان نبي الرحمة ما اقتضى ذلك الهلاك بل النجاة.
ولما أخبر سبحانه بهلاكهم وما سببه من أقوالهم وأفعالهم، وكان للتخليص من العظمة في القلوب بتصوير المخلص للأذهان ما لا يخفى، لخص ذلك ذاكراً لأنه حل بهم بالخصوص - ما نسبوا إلى المؤمنين من الخسارة فقال: { الذين كذبوا شعيباً } أي نسبوه إلى الكذب فيما قاله عنا وأيدناه فيه بالبينات { كأن } أي هم المخصصون بالهلاك حتى كأنهم { لم يغنوا } أي ينزلوا ويقيموا، وبطل مقامهم لاهين بالأفراح والغناء والاستغناء من المغاني وهي المنازل والاستغناء { فيها } أي الدار بسبب تكذيبهم.
ولما كان تكذيب الصادقين لا سيما الرسل في غاية الشناعة، كرره إشارة إلى ذلك وإعلاماً بأنه سبب لهم أعظم من هلاك الأشباح ضد ما سبب التصديق للمؤمنين فقال: { الذين كذبوا شعيباً } أي تكذيبه سبباً لهلاكهم { كانوا } أي بسبب التكذيب أيضاً { هم } أي خاصة { الخاسرين* } أي خسروا أرواحهم كما خسروا أشباحهم فهم لما سوى ذلك أخسر، وأما الذين اتبعوه فما نالهم شيء من الخسار، وفي هذا الاستئناف والابتداء والتكرير مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لآرائهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم.
ولما صارت تلك الدار محل الغضب، سبب ذلك أن هاجر عنها كما كانت عادة من قبله من الأنبياء عليهم السلام، فقال: { فتولىعنهم } بعد نزول العذاب وقبله عند رؤية مخايله ذاهباً إلى مكان غيره، يعبد ربه فيه { وقال } متأسفاً على ما فاته من هدايتهم { يا قوم } أي يا عشيرتي وأقرب الناس إليّ { لقد أبلغتكم } ولعله جمع لأجل كثرة ما أتاهم به من المعجزات فقال: { رسالات ربي } أي المحسن إليّ بإنجائي ومن تبعني من عذابكم لتوفيقه لنا إلى ما يرضيه { ونصحت } أي وأوقعت النصح { لكم } أي خاصة.
ولما كان هذا مفهماً لما طبع البشر من الأسف أهله وعشيرته، سبب عنه منكراً على نفسه قوله: { فكيف آسى } أي أحزن حزناً شديداً { على قوم كافرين* } أي عريقين في الكفر، فعرف أنه أسف عليهم من أجل قربهم وفوات الإيمان لهم غير آسف عليهم من أجل كفرهم، وتخصيص تكرير هذه القصص الخمس على هذا الترتيب في كثير من سور القرآن- دون قصة إبراهيم عليه السلام وهو أعظمهم - لانتظامهم في أنهم أقرت أعينهم بأن رأوا مصارع من خالفهم، وأما إبراهيم عليه السلام فإنه وقع النص في قوله
{ إني ذاهب إلى ربي سيهدين } [الصافات: 99] بأنه خرج من بين قومه قبل عذابهم ولم يسلك به سبيلهم في إقرار عينه بإهلاك من كذبه بحضرته، وهو أفضلهم لأن الكائن في قصته أعظم في الأفضلية،وهو طبق ما اتفق لولده أفضل البشر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى قوله تعالى { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } [الأنفال: 33] تعرف ما في هذا المقام من الإكرام، وأن الأمر كما قيل: لعين تجازى ألف عين وتكرم.
ولما قدم سبحانه إجمال الإنذار بما اشتركت فيه الأمم من الإهلاك بقوله تعالى:
{ وكم من قرية أهلكناها } [الأعراف: 4] الآية، ثم أتبعه - بعد تقديم ما يحتاج إليه على النظم الذي سبق التنبيه عليه - تفصيل ما انفردت به كل أمه من العذاب الحاث على سبيل الصواب، أتبع ذلك إجمالاً آخر أبسط من الأول على نمط غريب دال على عادته المستمرة وسنته المستقرة في شرح حال هؤلاء الأمم الذين ذكرهم وغيرهم، لئلا يظن أن غيرهم كان حاله غير حالهم، فبين أن الكل على نهج واحد وأن السبب في استئصالهم واحد، وهو التكذيب والاستكبار على الحق، ليكون الإجمال كالضوابط والقواعد الكلية لتنطبق على الجزيئات. وذلك الاستبصار بما يكون من نافع أو ضار وعدم الاغترار بأحوال المستدرجين الأشرار متكفل بالتسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم والتأسية، متقدم على قصة موسى وهارون عليهما السلام لطولها وتعجيلاً بما في ذلك من مصارع الإنذار بقوله تعالى: { وما } أي أرسلنا فلاناً فكان كذا وفلاناً فكان كذا، وما { أرسلنا } أي بما لنا من العظمة { في قرية } أي من قرى أولئك وغيرهم { من نبيٍّ } أي من الأنبياء الذين تقدموك { إلا } كان ما نخبر به من ترهيبهم من سطواتنا وهو أنا { أخذنا } أي بعظمتنا { أهلها } أي أخذ قهر وسطوة، أي لأجل استكبارهم عن الحق { بالبأساء } أي قهر الرجال { والضراء } أي المرض والفقر { لعلهم يضرعون* } أي ليكون حالهم عند المساءة حال من يرجى تضرعه وتذللـه وتخضعه لمن لا يكشف ذلك عنه غيره ولو كان التضرع في أدنى المراتب - على ما أشار إليه الإدغام، لأن ذلك كاف في الإنقاذ من عذاب الإنذار الذي هذه سورته بخلاف ما مضى في الأنعام.
ولما لم يتضرعوا صادقين من قلوبهم معترفين بالحق لأهله كما يحق له، استدراجهم بإدرار النعم، فقال مشيراً إلى طول مدة الابتلاء واستبعادهم لكشف ذلك البلاء: { ثم بدلنا } ومظهر العظمة يؤيد الاحتمال الثاني { مكان } أي جعلنا { السيئة } أي النقمة { الحسنة } أي النعمة، وبين أنه مد النعمة بقوله: { حتى عفوا } أي بدل كثروا وكثرت نعمهم فلم يشكروا { وقالوا } مسندين الأمر إلى غير أهله { قد مس آباءنا الضراء } أي الشدة { والسراء } أي الرخاء والنعمة، معتقدين أن هذه عادة الدهر لا فعل الفاعل المختار.
ولما لم يعتبروا ويعلموا أن ذلك ممن يحب أن لا يعدل عن بابه ولا يغفل عن جنابه، وظنوا أن ذلك دأب الدهر وفعل الزمان، واستمروا على فسادهم في حال الشدة والرخاء، سبب عنه قوله: { فأخذناهم } أي بعظمتنا أشد الأخذ وأفظعه في الظاهر والباطن { بغتة } أي فجأة حتى لا ينفعهم التوبة، وأكد معنى البغت تحقيقاً لأمره بقوله: { وهم لا يشعرون* } فحق من سمع هذا أن يبادر إلى الرجوع عن كل مخالفة فيها خوفاً من الأخذ بغتة.
ولما بين تعالى ما كان قولهم مسبباً له من الأخذ بغتة، بين ما كان يكون ضد قولهم مسبباً له من البركات لو وقع بقوله: { ولو أن أهل القرى } أي هذه التي قصصنا أخبارها { آمنوا } أي بما أتاهم به رسلهم { واتقوا } أي خافوا أمر الله وجعلوا بينهم وبين سخطه وقاية من طاعاته فاستمروا على إيمانهم { لفتحنا عليهم بركات } أي خيرات ثابته لا يقدر أحد على إزالتها { من السماء } أي بالمطر الذي يكون كأفواه القرب وما شابهه { والأرض } بالنبت الغليظ وما قاربه، وقراءة ابن عامر بالتشديد يدل على كثرة تلك البركات، وأصل البركة الموظبة على الخير.
ولما كان الكلام بما أفهمته { لو } في قوة أنهم يؤمنوا عبر بقوله: { ولكن كذبوا } أي كان التكذيب ديدنهم وشأنهم، فلذلك لم يصدقوا رسلنا في شيء، ولما كان التكذيب موضع الجلافة والجمود الذي هو سبب لعدم النظر في الدليل، سبب عنه العذاب فقال: { فأخذناهم } أي بما لنا من العظمة { بما } أي بسبب ما { كانوا يكسبون* } أي بجبلاتهم الخبيثة من الأعمال المناسبة لها.