التفاسير

< >
عرض

وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ
٣٣
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ
٣٤
أُوْلَـٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ
٣٥
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ
٣٦
عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ
٣٧
أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ
٣٨
-المعارج

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان أجل العهود والأمانات ما كان بإشهاد قال مبيناً لفضل الشهادة: { والذين هم } أي بغاية ما يكون من توجيه القلوب { بشهاداتهم } التي شهدوا بها أو يستشهدون بها لطلب أو غيره، وتقديم المعمول إشارة إلى أنهم في فرط قيامهم بها ومراعاتهم لها كأنهم لا شاغل لهم سواها { قائمون * } أي يتحملونها ويؤدونها على غاية التمام والحسن أداء من هو متهيىء لها واقف في انتظارها.
ولما كانت أضداد هذه المذكورات نقائص مهلكات، وكانت الأنفس - لما لها من النقص - نزاعة إلى النقائص ميالة إلى الدسائس، ذكر سبحانه بالدواء المبرىء من كل داء، فقال مشيراً إلى حفظ أحوال الصلاة وأوصافها بعد ذكر الحفظ لذواتها وأعيانها تنبيهاً على شدة الاهتمام بها: { والذين هم } ولما وسط الضمير إشارة إلى الإقبال بجميع القلب قدم الصلة كما فعل بما قيل تأكيداً وإبلاغاً في المراد إلى أقصى ما يمكن كما لا يخفى على ذي ذوق فقال: { على صلاتهم } من الفرض والنقل { يحافظون * } أي يبالغون في حفظها ويجددونه حتى كأنهم يبادرونها الحفظ ويسابقونها فيه فيحفظونها لتحفظهم أو يسابقون غيرهم في حفظها لأوقاتها وشروطها وأركانها ومتمماتها في ظواهرها وبواطنها من الخضوع والمراقبة، وغير ذلك من خلال الإحسان التي إذا فعلوها كانت ولا بد ناهية لفاعلها "أن الصلاة" الكاملة "تنهى عن الفحشاء والمنكر" فتحمل على جميع هذه الأوامر وتبعد عن أضدادها، ولكون السياق هذا للتخلي عن الأوصاف الجارة إلى الكفر وحد الصلاة إشارة إلى أنه يكفي في ذلك الفرائض وإن كان الجاس يشمل، وفي المؤمنون السياق لأهل الرسوخ في المحاسن، فلذلك جمع بين النوعين: الإفراد في الأول لينصب بادىء بدىء إلى الفرائض، والجمع في بعض القراءات ليفهم مع ذلك النوافل بأنواعها، وفي فتح الأوصاف بالصلاة وختمها بها من بيان جلالتها وعظمتها أمر باهر.
ولما ذكر حلاهم أتبعه ما أعطاهم فقال مستأنفاً ومستنتجاً من غير فاء إشارة إلى أن رحمته هي التي أوصلتهم إلى ذلك من غير سبب منهم في الحقيقة: { أولٰئك } أي الذين هم في غاية العلو لما لهم من هذه الأوصاف العالية، وعبر بما يدل على أنه عجل جزاءهم سبحانه فقال: { في جنات } أي في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فواضح، وأما في الدنيا فلأنهم لما جاهدوا فيه بإتعاب أنفسهم في هذه الأوصاف حتى تخلقوا بها أعطاهم بمباشرتها لذاذات من أنس القرب وحلاوة المناجاة لا يساويها شيء أصلاً، والجنة محل اجتمع فيه جميع الراحات والمستلذات والسرور، وانتفى عنه جميع المكروهات والشرور، وضدها النار، وزادهم على ذلك بقوله: { مكرمون * } معبراً باسم المفعول إشارة إلى عموم الإكرام من الخالق والخلق الناطق وغيره لأنه سبحانه قضى بأن يعلو مقدارهم حتى يكونوا أعظم مشخص؟ لهم في الغيب مبالغاً في إكرامهم عند المواجهة ليكون لهم نصيب من خلق نبيهم صلى الله عليه وسلم،"لقيه يوم بني قريظة علي رضي الله عنه وكان قد سبقه إليهم فقال: يا رسول الله، ما عليك ألا تدنو من هؤلاء الأخابث؟ فقال: ولم، لعلك سمعت بي منهم أذى، لو قد دنوت منهم لم يقولوا من ذلك شيئاً، ثم دنا منهم فقال: هل أخزاكم الله يا إخوان القردة والخنازير، فقالوا: مه يا أبا القاسم ما كنت جهولاً " وكلموه بأحسن ما يمكنهم، وكذا كانت معه قريش قبل الهجرة في أكثر أحوالهم، هذا في الدنيا وأما في الآخرة فيتلقاهم الملائكة بالبشرى حين الموت وفي قبورهم ومن حين قيامهم من قبورهم إلى حين دخولهم إلى قصورهم.
ولما تحرر بهذا الكلام الإلهي الذي يشك عاقل في أن مخلوقاً لا يقدر عليه، وأنه لا يقدر عليه إلا الله الواحد الذي لا شريك له، العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، أنه لا يتفصى عن نقائص الإنسان حتى يتخلص من ظلمات النقصان إلى نور الإحسان إلا من لازم هذه الأوصاف وزكى نفسه بها ليصير كاملاً مع العلم القطعي عند المسلم والكافر أن الكمال سبب السعادة، وأن الإنسان مطبوع على ما صدر به سبحانه من النقائص، علم أن المتصفين بهذه الأوصاف هم المختصون بالسعادة الأخروية، وكان الكفار يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويجلسون حوله بالقرب منه ليسمعوا كلامه ويكذبوه ويهزؤوا به، وكان العاقل لا ينبغي له أن يأتي شيئاً لا سيما إن كان إتيانه إليه على هيئة الإسراع إلا لتحصيل السعادة، سبب عن ذلك قوله معبراً عن عظمة القرآن بما حاصله أنهم حين يسمعونه يصيرون لشدة ما يفزعهم أمره لا يتمالكون فيفعلون أفعال من لا وعي له: { فمال الذين كفروا } أي أي شيء من السعادة للذين ستروا مرائي عقولهم عن الإقرارا بمضمون هذا الكلام الذي هو أوضح من الشمس، حال كونهم { قبلك } أي نحوك أيها الرسول الكريم وفيما أقبل عليك { مهطعين * } أي مسرعين مع مد الأعناق وإدامة النظر إليك في غاية العجب من مقالك هيبة من يسعى إلى أمر لا حياة له بدونه.
ولما كان الذي يتطير فيراعي الأيامن والأشائم على ما تقدم في الصافات، لا يترك ذلك إلا في أمر أدهش عقله وأطار لبه، فلم يدعه يتأمل، قال مشيراً إلى شدة اعتنائهم بهذا الإهطاع مع عدم التحفظ من شيء: { عن } أي متجاوزين إليك كل مكان كان عن جهة { اليمين } أي منك حيث يتمنون به { وعن الشمال } أي منك وإن كانوا يتشاءمون به { عزين * } أي حال كونهم جماعات جماعات وخلقاً خلقاً متفرقين فرقاً شتى أفواجاً يتمهلون ليأتوا جميعاً جمع عزة، وأصلها عزوة لأن كل فرقة تعتزي إلى غير ما تعتزي إليه الأخرى، جمع جمع سلامة شذوذاً.
ولما كان هذا الإسراع على هذا الوجه لا ينبغي أن يكون إلا فيما يتحقق أنه مسعد، ومع تحقق أنه مسعد لا ينبغي أن يكون إلا فيما تحصل به السعادة الأبدية؛ قال منبهاً على ذلك منكراً أن يكون لهم ما كان ينبغي ألا يكون فعلهم ذلك إلا له مع أنه كان من جملة استهزائهم إذا تحلقوا لسماع ما يقرأ أن يقولوا: إن كان ما يقول حقاً من أمر البعث والجنة لنكونن أسعد بها منهم كما أنا أسعد منهم في هذه الدار كما قال تعالى حاكياً عنهم في قوله:
{ ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } [فصلت: 50] وذلك أنه كثيراً ما يأتي الغلط من أن الإنسان يكون في خير في الدنيا فيظن أن ذلك مانع له من النار لأنه خير في نفس الأمر، أو يظن أن إمهاله وهو على الباطل رضي به، ولا يدري أنه لا يضجر ويقلق ويعجل إلا من يخاف الفوت، أو يكون شيء بغير إرادته: { أيطمع } أي بهذا الإتيان، وعبر بالطمع إشارة إلى أنهم بلغوا الغاية في السفه لكونهم طلبوا أعز الأشياء من غير سبب تعاطوه له.
ولما كان إتيانهم على هيئة التفرق من غير انتظار جماعة لجماعة قال: { كل امرىء منهم } أي على انفراده، ولما كان المحبوب دخول الجنة لا كونه من مدخل معين، قال بانياً للمفعول: { أن يدخل } أي بالإهطاع وهو كافر من غير إيمان يزكيه كما يدخل المسلم فيستوي المسيء والمحسن { جنة نعيم * } أي لا شيء فيها غير النعيم في كل ما فيها على تقدير ضبطه.