التفاسير

< >
عرض

وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً
١٤
أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً
١٥
وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً
١٦
وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً
١٧
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً
١٨
وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً
١٩
لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً
٢٠
قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً
٢١
-نوح

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان هذا إشارة إلى الاستدلال على البعث بما يعلمونه من أنفسهم صرح بعد ما لوح، فقال آتياً بحرف التوقع لأنه مقامه: { وقد } أي والحال أنه قد أحسن إليكم مرة بعد مرة بما لا يقدر عليه غيره، فدل ذلك على تمام قدرته، ثم لم يقطع إحسانه عنكم فاستحق أن تؤمنوا به لأنه { { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } [الرحمن:60] ورجاء لدوام إحسانه وخوفاً من قطعه لأنه { خلقكم } أي أوجدكم من العدم مقدرين { أطواراً * } أي تارات عناصر أولاً ثم مركبات تغذي الحيوان ثم أخلاطاً ثم نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم عظاماً ولحوماً وأعصاباً ودماء، ثم خلقاً آخر تاماً ناطقاً ذكراناً وإناثاً طوالاً وقصاراً بيضاً وسوداً وبين ذلك - إلى غير ذلك من الأمور الدالة على قدرته على كل مقدور، ومن قدر على هذا الابتداء كان على الإعادة أعظم قدرة، وقد ثبتت حكمته وأنه لم يخلق الخلق الخلق سدى بما بان من هذا التطوير على هذه الهيئات العجيبة التي لا قدرة لغيره عليها بوجه، وهم يتهارجون في هذه الدار تهارج الحمر، ويموت المظلوم على حاله، والظالم يبلغ آماله، فلا بد أن يعيدهم ليفصل بينهم فيظهر حكمته وعدله وإكرامه وفضله، ولو ترك ذلك لكان نقصاً في ملكه، ومن قدر على ذلك كان قادراً على الجزاء بالثواب والعقاب، فهو أهل لأن يخشى ويرجى.
ولما كان هذا واضحاً ولكنهم قوم لد، لا يردهم إلا الشمس المنيرة في وقت الظهيرة، ذكرهم - بعد التذكير بما في أنفسهم - بما هو أكبر من ذلك من آيات الآفاق وقسمها إلى علوي وسفلي، وبدأ بالأنفس لأنها مع شرفها أقرب منظور إليه لهم، وثنى بالعلوي لأنه يليها في الشرف ووضوح الآيات، فقال: دالاًّ على القدرة على البعث والجزاء بالثواب والعقاب: { ألم تروا } أي أيها القوم.
ولما كان تأمل الكيفيات يحتاج إلى دقة وتوقف على عجائب ولطائف تؤذن قطعاً بأن فاعلها لا يعجزه شيء، وقال منكراً عليهم عدم التأمل: { كيف خلق الله } أي الذي له العلم التام والقدرة البالغة والعظمة الكاملة { سبع سماوات } هي في غاية العلو والسعة والإحكام والزينة، يعرف كونها سبعاً بما فيها من الزينة.
ولما كانت المطابقة بين المتقابلات في غاية الصعوبة لا يكاد يقدر عليها من جميع الوجوه أحد، قال: { طباقاً * } أي متطابقة بعضها فوق بعض وكل واحدة في التي تليها محيطة بها "ما لها من فروج" لا يكون تمام المطابقة إلا كذلك بالإحاطة من كل جانب.
ولما كان المحيط لا يتوصل إلى داخله إلى محيط العلم والقدرة، قال دالاًّ على كمال قدرته وتصرفه معبراً بالجعل الذي يكون عن تصيير وتسبيب: { وجعل القمر } أي الذي ترونه وهو في السماء الدنيا، وبدأ به لقربه وسرعة حركته وقطعه جميع البروج في كل شهر مرة وغيبته في ليالي السرار ثم ظهوره، وذلك أعجب في القدرة.
ولما كانت السماء شفافات قال: { فيهن } أي السماوات جميعهن { نوراً } أي لامعاً منتشراً كاشفاً للمرئيات، أحد وجهيه يضيء لأهل الأرض والثاني لأهل السماوات، ولما كان نوره مستفاداً من نور الشمس قال: { وجعل } معظماً لها بإعادة العامل { الشمس } أي في السماء الرابعة { سراجاً * } أي نوراً عظيماً كاشفاً لظلمه الليل عن وجه الأرض وهي في السماء الرابعة، وروى ابن مردويه وعبد الرزاق والطبري عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم: "إن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماء، وأقفيتهما إلى الأرض"؛ وروى الحاكم منه ذكر القمر وجعلهما سبحانه آية على رؤية عباده المحسنين له في الجنة فإنه يرى كل أحد كلاًّ من مكانه مخلياً به، وكذلك يرونه سبحانه عياناً جهاراً كما رأوه في الدنيا بالإيمان نظراً واعتباراً، ولما دل على كمال علمه وتمام قدرته بخلق الإنسان ثم بخلق ما هو أكبر منه أعاد الدلالة بخلق الإنسان لأنه أعظم المحدثات وأدلها على الله سبحانه وتعالى على وجه آخر مبين لبعض ما أشار إليه الأول من التفصيل مصرحاً بالبعث فقال مستعيراً الإنبات للإنشاء: { والله } أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله { أنبتكم } أي بخلق أبيكم آدم عليه الصلاة والسلام { من الأرض } أي كما ينبت الزرع، وعبر بذلك تذكيراً لنا لما كان من خلق أبينا آدم عليه الصلاة والسلام لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض، وأشار إلى أنه جعل غذءانا من الأرض التي خلقنا منها، وبذلك الغذاء نمونا.
ولما كان إنكارهم للبعث كأنه إنكار للابتداء أكده بالمصدر وأجراه على غير فعله بتجريده من الزيادة، إشارة إلى هوانه عليه سبحانه وتعالى وسهولته مع أنه إبداع وابتداء واختراع فقال: { نباتاً * } ومع ذلك فالآية صالحة للاحتباك: ذكر "أنبت" أولاً دال على حذف مصدره ثانياً، وذكر "النبات" ثانياً دال على حذف فعله أولاً، ليكون التقدير: أنبتكم إنباتاً فنبتم نباتاً.
ولما كان في الموت أيضاً دليل على تمام العلم والقدرة غير أنه ليس كدلالة الابتداء بالابتداع، وكان مسلماً ليس فيه نزاع، ذكره من غير تأكيد بالمصدر فقال دالاًّ على البعث والنشور: { ثم يعيدكم } على التدريج { فيها } أي الأرض بالموت والإقبار وإن طالت الآجال { ويخرجكم } أي فيها بالإعادة، وأكد بالمصدر الجاري على الفعل إشارة إلى شدة العناية به وتحتيم وقوعه لإنكارهم له فقل: { إخراجاً * } أي غريباً ليس هو كما تعلمون بل تكونون به في غاية ما يكون من الحياة الباقية، تلابس أرواحكم بها أجسامكم ملابسة لا انفكاك بعدها لأحدهما عن الآخر.
ولما كان النابت من الشيء لا يتصرف في ذلك الشيء، دل على كمال قدرته بخرق تلك العادة لهم على وجه الإنعام عليهم، فقال مظهراً للاسم الشريف مرة بعد أخرى تعظيماً للأدلة لئلا تقيد القدرة بما يقترن به الاسم دالاًّ بالعالم السفلي بعد الإرشاد بالعلوي وآخر السفلي لأن آياته على ظهورها خفيت بكثرة الإلف لها: { والله } أي المستجمع لجميع الجلال والإكرام { جعل لكم } أي نعمة عليكم اهتماماً بأمركم { الأرض بساطاً * } أي سهل عليكم التصرف فيها والتقلب عليها سهولة التصرف في البساط، ثم علل ذلك فقال: { لتسلكوا } أي منجدين { منها } أي الأرض مجددين لذلك { سبلاً } أي طرقاً واضحة مسلوكة بكثرة { فجاجاً * } أي ذوات اتساع لتتوصلوا إلى البلاد الشاسعة براً وبحراً، فيعم الانتفاع بجميع البقاع، فالذي قدر على إحداثكم وأقدركم على التصرف في أصلكم مع ضعفكم قادر على إخراجكم من أجداثكم التي لم تزل طوع أمره ومحل عظمته وقهره.
ولما كانوا جادلوه عليه الصلاة والسلام بعد هذا البيان الذي لا يشك في دلالته على المراد من تحقق لصفاء الإيقان، فأكثروا الجدال ونسبوه إلى الضلال وعصوه أقبح العصيان وقابلوه بأشنع الأقوال والأفعال، طوى ذلك مشيراً إليه بقوله مستأنفاً: { قال نوح } أي بعد رفقه بهم ولينه لهم شاكياً منهم: { رب } أي أيها المحسن إليّ المدبر لي المتولي لجميع أموري.
ولما كان الضعفاء أكثر الناس بحيث إذا اجتمعوا دل الرؤوس الأقوياء بالأموال والأولاد وكانوا كأنهم الكل، فقال مؤكداً لأن عصيانهم له بعد ذلك مما يبعد وقوعه: { إنهم } أي قومي الذين دعوتهم إليك مع صبري عليهم ألف سنة إلا خمسين عاماً { عصوني } أي فيما أمرتهم به ودعوتهم إليه فأبوا أن يجيبوا دعوتي وشردوا عني أشد شراد وخالفوني أقبح مخالفة { واتبعوا } أي بغاية جهدهم نظراً إلى المظنون العاجل بعد ترك المحقق عاجلاً وآجلاً { من } أي من رؤسائهم البطرين بأموالهم المغترين بولدانهم، وفسرهم بقوله: { لم يزده } أي شيئاً من الأشياء.
ولما كان المال يكون للإنسان الولد، وكان ينبغي أن يشكر الله الذي آتاه إياه ليكون له خيراً في الدارين وكذا الولد قال: { ماله } أي بكثرته { وولده } كذلك، وهو الجنس في قراءة التحريك - وكذا في قراءة ابن كثير والبصريين وحمزة والكسائي بالضم والسكون على أنه لغة في المفرد كالحزن والحزن والرشد والرشد، أو يكون على هذه جمعاً كالأسد والأسد، ويكون اختيار أبي عمرو لهذه القراءة في هذا الحرف وحده للإشارة بجمع الكثرة المبني على الضمة التي هي أشد الحركات إلى أنهم - وإن زادت كثرتهم وعظمت قوتهم - لا يزيدونهم شيئاً { إلا خساراً * } بالبعد عن الله والعمى عن محجة الطريق، فإن البسط لهم في الدنيا بذلك كان سبباً لطغيانهم وبطرهم واتباعهم لأهوائهم حتى كفروا واستغووا غيرهم فغلبوا عليهم فكانوا سبباً في شقائهم وخسارتهم بخسارتهم، وكان عندهم أنها زادتهم رفعة، وفي السياق دليل على أنهم ما حصلت لهم الوجاهة إلا بها.