التفاسير

< >
عرض

مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً
٢٥
وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً
٢٦
إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً
٢٧
رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً
٢٨
-نوح

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما فرغ من أمرهم في ضلالهم، ودعا رسولهم صلى الله عليه وسلم، فلم يبق إلا إهلاكهم. وكان من مفهومات الضلال المحق وإذهاب العين كما يضل الماء في اللبن، قال مبيناً، إجابته لدعائه ذاكراً الجهة التي أهلكوا بسببها: وأكد بـ "ما" النافية في الصورة لضد مضمون الكلام لاعتقاد الكفار أن الإنجاء والإهلاك عادة الدهر: { مما }.
ولما كان الكافر قد أخطأ ثلاث مرات: يكفره في الإيمان بالطاغوت، وتكذيب ربه، وتكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك كافياً في استحقاقه للأخذ قال: { خطيئاتهم } جامعاً له جمع السلامة - في قراءة الجماعة، وأفهمت قراءة أبي عمرو بجمع التكسير أن لهم مع هذه الأمهات الكافية في الأخذ من الذنوب ما يفوت الحصر يوجب تغليظ ذلك الأخذ، فهي مشيرة إلى أنه ينبغي الاحتراز من كل الذنب.
ولما كان الموجع إغراقهم لا كونه من معين، قال مخبراً عما فعل بهم في الدنيا: { أغرقوا } أي بالطوفان بانياً له للمفعول لذلك وللإعلام بأنه في غاية السهولة على الفاعل المختار الواحد القهار، فطاف الماء عليهم جميع الأرض السهل والجبل، فلم يبق منهم أحداً، وكذا الكلام فيما تسبب عنه وتعقبه من قوله: { فأدخلوا } أي بقهر القهار في الآخرة التي أولها البرزخ يعرضون فيه على النار بكرة وعشياً { ناراً * } أي عظيمة جداً أخفها ما يكون من مبادئها في البرزخ، قال الشيخ ولي الدين الملوي: فعذبوا في الدنيا بالغرق، وفي الآخرة بالحرق، والإياس من الرحمة، وأيّ عذاب أشد من ذلك، وقال الضحاك: في حالة واحدة كانوا يغرقون في الماء من جانب ويحترقون في الماء من جانب آخر بقدرة الله سبحانه وتعالى، وفيها دلالة على قول غيره على عذاب القبر.
ولما كانوا قد استندوا إلى آلهتهم لتنصرهم من أخذ الله تعالى، قال مسبباً عن هذا الإغراق والإدخال من الرحمة ليكون ذلك أشد في العذاب، فإن الإنسان - كما قال الملوي: - إذا كان في العذاب ويرجو الخلاص يهون عليه الأمر بخلاف ما إذا يئس من الخلاص، معلماً بأن آلهتهم عاجزة فإنهم لم تغن عنهم شيئاً، توبيخاً لمن يعبد مثلها: { فلم يجدوا } وحقق الأمر فيهم بقوله: { لهم } أي عندما أناخ الله بهم سطوته وأحل بهم نقمته.
ولما كانت الرتب كلها دون رتبته تعالى، وكان ليس لأحد أن يستغرق جميع ما تحت رتبته سبحانه من المراتب، قال مثبتاً الجار: { من دون الله } أي الملك الأعظم الذي تتضاءل المراتب تحت رتبة عظمته وتذل لعزه وجليل سطوته { أنصاراً * } ينصرونهم على من أراد بهم ذلك ليمنعوه مما فعل بهم أو يقتصوا منه لهم بما شهد به شاهد الوجود الذي هو أعدل الشهود من أنه تم ما أراده سبحانه وتعالى من إغراقهم من غير أن يتخلف منهم أحد على كثرتهم وقوتهم لكونهم أعداءه وإنجاء نبيه نوح عليه الصلاة والسلام ومن معه رضوان الله وسلامه عليهم أجمعين على ضعفهم وقلتهم لم يقعد منهم أحد لكونهم أولياءه، فكما لم يهلك ممن أراد إنجاءه أحد فكذلك لم يسلم منهم، فمن قال عن عوج ما يقوله القصاص فهو أيضاً ضال أشد ضلال، فلعنة الله على من يقول: إن الله تعالى كان غير ناصرهم، مع هذه الدلالات التي هي نص في أنه عدوهم، وأن نصرهم إنما يكون على نبيه نوح عليه الصلاة والسلام، واعتقاد ذلك أو شيء منه كفر ظاهر لا محيد عنه بوجه، وقائل ذلك هو ابن عربي صاحب الفصوص الذي لم يرد بتصنيفه إلا هدم الشريعة المطهرة، ونظمه أياً ابن الفارض في تائيته التي سماها بنظم السلوك، فلعنة الله عليه وعلى من تبعه أو شك في كفره أو توقف في لعنه بعد ما نصب من الضلال الذي سعر به البلاد، وأردى كثيراً من العباد.
ولما أتم الخبر عن إغراقهم، وقدمه للاهتمام بتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم في إجابة دعوته تحذيراً للعرب أن يخرجوا رسولهم صلى الله عليه وسلم فيخرجوه إلى مثل ذلك، عطف على قول نوح عليه السلام من أوله قوله عندما أخبره تعالى أنهم مغرقون وأنه لا يؤمن منهم إلا من قد آمن بعدما طال بلاؤه بهم حتى أن كان الرجل ليأتي بابنه إليه فيقول له: احذر هذا أن يضلك، وإن أبي حذر به، وكانت صيغة العموم ليست بنص في أفرادها أبداً، استنجازاً لوعده وتصريحاً بمراده: { وقال نوح } وأسقط الأداة كما هي عادة أهل الحضرة فقال: { رب لا تذر } أي تترك بوجه من الوجوه أصلاً ولو على أدنى الوجوه { على الأرض } أي كلها من مشرقها إلى مغربها وسهلها وجبلها ووهدها { من الكافرين } أي الراسخين في الكفر الذي هو كان لهم جبلة وطبعاً { دياراً * } أي أحداً يدور فيها، وهو من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي العام فيقال من الدور أو الدار لا فعّال، وإلا لكان دواراً، ويجوز - وهو أقرب - أن يكون هذا الدعاء عند ركوبه السفينة وابتداء الإغراق فيهم، يريد به العموم كراهية أن يبقى أحد منهم على ذروة جبل أو نحوه، لا أصل الإغراق، وأن يكون معنى ما قبله الحكم بإغراقهم وتحتم القضاء به أو الشروع فيه.
ولما كان الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يقولون ولا يفعلون إلا ما فيه مصلحة الدين، علل دعاءه بقوله وأكده إظهاراً لجزمه باعتقاد ما أنزل عليه من مضمون قوله تعالى:
{ إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } [هود: 36] وإن كان ذلك خارجاً عن العادة: { إنك } أي يا رب { إن تذرهم } أي تتركهم على أي حالة كانت في إبقائهم سالمين على وجه الأرض على ما هم عليه من الكفر والضلال والإضلال ولو كانت حالة دنية { يضلوا عبادك } أي الذين آمنوا بي والذين يولدون على الفطرة السليمة.
ولما كان ربما كان الإنسان ضاراً ووجد له ولد نافع؛ نفى ذلك بقوله: { ولا يلدوا } أي إن قدرت بقاءهم في الدنيا { إلا فاجراً } أي مارقاً من كل ما ينبغي الاعتصام به، واكتفى فيه بأصل الفاعل إشارة إلى أن من جاوز الحد أو شرع في شيء بعده من التمادي في الغي صار ذلك له ديدناً فبالغ، فلذلك قال: { كفاراً * } أي بليغ الستر لما يجب إظهاره من آيات الله لأن قولك يا رب لا يتخلف أصلاً، والظاهر أن هذا الكلام لا يقوله إلا عن وحي كما في سورة هود عليه السلام من قوله تعالى:
{ إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } [هود: 36] فيكون على هذا حتى صغارهم معذبين بما يعلم الله منهم لو بلغوا لا بما عملوه كما "قال صلى الله عليه وسلم في أولاد الكفارالله أعلم بما كانوا عاملين" .
ولما دل هذا كله على أنه دعا على أعداء الله، دعا أيضاً لأوليائه وبدأ بنفسه لأنه رأس تلك الأمة، فقال مسقطاً على عادة أهل الخصوص: { رب } أي أيها المحسن إليّ باتباع من اتبعني وتجنب من تجنبني، فإن من كانت طبيعته طبعت على شيء لا تحول عنه.
ولما كان المقام الأعلى أجل من أن يقدره أحد حق قدره قال: { اغفر لي } أي فإنه لا يسعني وإن كنت معصوماً إلا حلمك وعفوك ورحمتك. ولما أظهر بتواضعه عظمة الله سبحانه وتعالى رتب المدعو لهم على الأحق فالأحق فقال: { ولوالديّ } وكانا مؤمنين وهما لمك بن متوشلخ وشمخاء بنت أنوش، قال أبو حيان: وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يكفر لنوح عليه السلام أب فيما بينه وبين آدم عليهم الصلاة والسلام. وأعاد الجار إظهاراً للاهتمام فقال: { ولمن دخل بيتي } لأن المتحرم بالإنسان له حق أكيد لا سيما إن كان مخلصاً في حبه، ولذا قال: { مؤمناً } ولما خص عم وأعاد الجار أيضاً اهتماماً فقال: { وللمؤمنين والمؤمنات } أي العريقين في هذا الوصف في كل أمة إلى آخر الدهر ولا تزدهم في حال من الأحوال شيئاً من الأشياء إلا مفازاً.
ولما كان التقدير بما أرشد إليه الاحتباك: ولا تكرم المارقين، عطف عليه قوله: { ولا تزد الظالمين } أي العريقين في الظلم في حال من الأحوال { إلا تباراً * } أي إلا هلاكاً مدمراً مفتتاً لصورهم قاطعاً لأعقابهم مخبراً لديارهم وكما استجاب الله سبحانه وتعالى له في أهل الإيمان والكفران من أهل ذلك الزمان فكذلك يستجيب له في أهل الإيمان وأهل الخسران بالسعادة والتبار في جميع الأعصار إلى أن يقفوا بين يدي العزيز الجبار، والأية من الاحتباك: إثبات الدعاء المقتضي لأصل إكرام المؤمنين أولاً مرشد إلى حذف الدعاء المفهم لأصل إهانة الكافرين ثانياً، وإثبات الدعاء بزيادة التبار ثانياً مفهم لحذف الدعاء الموجب لزيادة المفاز أولاً، وهذا الآخر المفصح بالتبار هو ما أرشد إليه الابتداء بالإنذار، فقد انطبق الآخر على الأول على أصرح وجه وأكمل، وأحسن حال وأجمل منال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والحمد لله تعالى على كل حال.