التفاسير

< >
عرض

وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً
١٠
وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً
١١
وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً
١٢
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً
١٣
-الجن

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أخبروا عن إيمانهم أنه كان عقب سماعهم من غير توقف، ثم ذكروا منعهم من الاستراق، ذكروا أنه اشتبه عليهم المنع فلم يعلموا سره دلالة على أن جهل بعض المسائل الفرعية لا يقدح، وندباً إلى رفع الهمة عن الخوض في شيء بغير علم، وحثاً على التفويض إلى علام الغيوب، فبينوا الذي حملهم على ضرب مشارق الأرض ومغاربها حتى وجدوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن: فقالوا مؤكدين لأن العرب كانوا ينسبونهم إلى علم المغيبات وحل المشكلات: { وأنا لا ندري } أي بوجه من الوجوه وإن دافعنا واجتهدنا { أشر } ولما كان المحذور نفس الإرادة الماضية لا كونها من معروف مع أن الفاعل معروف، وهو الفاعل المختار الذي له الإرادة الماضية النافذة، بنوا للمفعول قولهم: { أريد } معلمين للأدب في أن الشر يتحاشى من إسناده إليه سبحانه حيث لا إشكال في معرفة أنه لا يكون شيء إلا به { بمن في الأرض } أي بهذه الحراسة فينشأ عنها الغي { أم أراد بهم ربهم } أي المحسن إليهم المدبر لهم، بنوه للفاعل في جانب الخير إعلاماً مع تعليم الأدب بأن رحمته سبقت غضبه، وإشارة إلى أنه قد يكون أراد بهذا المنع الخير { رشداً * } أي سداداً فينشأ عنه الخير، فالآية من الاحتباك: ذكر الشر أولاً دليلاً على الخير ثانياً، والرشد ثانياً دليلاً على الغنى أولاً.
ولما أخبر سبحانه بسهولة إيمانهم، فكان ربما ظن أن ذلك ما كان إلا لأن شأنهم اللين، أتبعه ما يعلم أن ذلك خارقة لأجله صلى الله عليه وسلم كانت، ولإعظامه وإكرامه وجدت، فقال حكاية عنهم مؤكدين لأن الكلام السابق ظاهر في سلامة طباع الكل: { وأنا منا } أي أيها الجن { الصالحون } أي العريقون في صفة الصلاح التي هي مهيئة لقبول كل خير.
ولما كان غير الصالح قد يكون فاسداً بأن يكون مباشراً للفساد قاصداً له وقد يكون غير مباشر له، قالوا متفطنين لمراتب العلوم والأعمال المقربة والمبعدة: { ومنا } وبنى الظرف المبتدأ به لإضافته إلى مبني فقيل: { دون } أي قوم في أدنى رتبة من { ذلك } أي هذا الوصف الشريف العالي.
ولما كان من دون الصالح ذا أنواع كثيرة بحسب قابليته للفساد أو الصلاح وتهيؤه له أو بعده عنه، حسن بيان ذلك بقولهم: { كنا } أو كوناً هو كالجبلة { طرائق } أي ذوي طرق أي مذاهب ووجوه كثيرة، وأطلقوا الطرق على أصحابها إشارة إلى شدة تلبسهم بها.
ولما كان الانفصال قد يكون بأدنى شيء، بين أنه على أعلى الوجوه فأطلق عليهم نفس المنقطع ووصفهم به فقال: { قدداً * } أي فرقاً متفرقة أهواؤها، جمع قدة وهي الفرقة من الناس هواها على غير هواهم، من القد وهو القطع الموجب للتفرق العظيم مثل السيور التي تقطع من الجلد وقد منه بحيث تصير كل فرقة على حدتها، قال الحسن والسدي: كافرين ومسلمين ورافضة ومعتزلة ومرجئة وغير ذلك مثل فرق الإنس.
ولما دلوا على قهرهم عما كانوا يقدرون عليه من أمر السماء بما ذكروا، وعلى قهر مفسديهم بهذا القرآن عن كثير مما كانوا يفعلونه بأهل الأرض، فقهروا بهذا القرآن العظيم الشأن في الحقيقة عن الخافقين فمنعنا منهم وحفظاً به، ودلوا على أنهم موضع القهر بالتفرق، كان ذلك موجباً للعلم بشمول قدرته تعالى حتى لا يدركه طالب، ولا ينجو منه هارب، لما أبدى لهم من شؤون عظمته وقهره في الحراسة وغيرها، فذكر سبحانه ما أثر ذلك عندهم من الاعتراف والإذعان للواحد القهار، فقال حاكياً عنهم ذلك ندباً إلى الاقتداء بهم في معرفة النفس بالعز والذل والضعف بالتفرق والانقسام، ومعرفة الرب سبحانه بالقدرة الكاملة والسلطان والعظمة بالتفرد التام الذي لا يقبل المماثلة ولا القسمة: { وأنا } أكدوا لظن الإنس في قوتهم غير ما هو لها { ظننا } أطلقوا الظن على العلم إشارة إلى أن العاقل ينبغي له أن يجتنب ما يخيله ضاراً ولو بأدنى أنواع الحيل فكيف إذا تيقن { أن } أي أن الشأن العظيم، وزادوا في التأكيد لما تقدم فقالوا: { لن نعجز الله } أي أن نقاومه إن أراد بنا سواءاً لما له من الإحاطة بكل شيء علماً وقدرة لأنه واحد لا مثل له، ودلوا على وجه الضعف بقولهم: { في الأرض } أي كائنين فيها مقيمين وهي جهة السفل الملزومة للقهر، وذلك أقصى جهدنا فأين نحن من سعة ملكه الذي هو في قبضته { ولن نعجزه } أي بوجه من الوجوه { هرباً * } أي ذوي هرب أو من جهة الهرب، أي هربنا من الأرض إلى غيرها فإن السماء منعت منا وليس لنا مضطرب إلا في قبضته، فأين أم إلى أين المهرب، وقد منعوا بذلك وجهي النجاة باللقاء والنصر والهرب عند القهر.
ولما كان الظانّ قد يبادر على العمل بموجب ظنه وقد لا، بينوا أن مرادهم به العلم، وأنهم بادروا إلى العمل بما دعا إليه، فقالوا مؤكدين لما للجن من الإباء والعسر: { وأنا لما سمعنا } أي من النبي صلى الله عليه وسلم { الهدى } أي القرآن الذي له من العراقة التامة في صفة البيان والدعاء إلى الخير ما سوغ أن يطلق عليه نفس الهدى: { آمنا به } أي من غير وقفة أصلاً عملاً بما له من هذا الوصف العظيم.
ولما كان التقدير: فآمنا بسبب إيماننا الذي قادنا إليه حفظ السماء من الإيقاع به لتمام قدرته علينا الذي هدانا إليه منعنا من الاستماع بالحراسة، سببوا عن ذلك قولهم معترفين بالعجز عن مقاومة التهديد من الملك طالبين التحصن بتحصينه والاعتصام بحبله: { فمن يؤمن } أي يوجد حقيقة الإيمان ويستمر على تجديدها كل لحظة. ولما فهموا أن دعاءه إليه وبيانه للطريق مع قدرته التامة إنما هو من عموم لطفه ورحمته، ذكروا وصف الإحسان لزيادة الترغيب فقالوا: { بربه } أي المحسن إليه منا ومن غيرنا.
ولما كان المؤمن هو المختص من بين الخلق بالنجاة، أدخل الفاء على الجواب ورفعه على تقدير مبتدأ دلالة على ذلك وعلى أن نجاتهم ما لا بد منه فقال: { فلا } أي فهو خاصة لا { يخاف } أصلاً { بخساً } أي نقصاً وقلة وخبثاً ونكداً في الثواب والإكرام بوجه من الوجوه { ولا رهقاً * } أي مكروهاً يلحقه فيقهره لأنه لم يفعل مع أحد شيئاً من ذلك ليجازى عليه، فهذا حث للمؤمن على اجتناب ذلك لئلا يجازى به، وقد هدى السياق إلى تقدير: ومن يشرك به فلا، يأمن محقاً ولا صعقاً.