التفاسير

< >
عرض

وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً
٥
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً
٦
وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً
٧
وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً
٨
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً
٩
-الجن

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما ذكروا ما هدوا إليه من الحق في الله وفيمن كان يحملهم على الباطل، ذكروا عذرهم في اتباعهم للسفيه وفي وقوعهم في مواقع التهم، فقالوا مؤكدين لأن ما كانوا عليه من الكفر جدير بأن يظن أنه لا يخفى على أحد لشدة وضوح بطلانه: { وأنا } أي معشر المسلمين من الجن { ظننا } أي بما لنا من سلامة الفطر المقتضية لتحسين الظن بشهادة حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند أحمد "المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم" { أن } أي أنه، وزادوا في التأكيد لما مضى فقالوا: { لن تقول } وبدأوا بأفضل الجنسين فقالوا: { الإنس } وأتبعوهم قرناءهم فقالوا: { والجن } أي متخرصين { على الله } أي الملك الأعلى الذي بيده النفع والضر { كذباً * } أي قولاً هو لعراقته في مخالفة الواقع نفس الكذب، وهو في قراءة أبي جعفر بفتح القاف والواو المشددة المفتوحة مصدر من غير اللفظ، وإنما ظننا ذلك لما طبع عليه المجبول على الشهوات من تصديق الأشكال لا سيما إذا كان قولهم جازماً وعظيماً لا يقال مثله إلا بعد تثبت لا سيما إذا كان على ملك الملوك لا سيما إذا كان القائل كثيراً لا سيما إذا تأيدوا بجنس آخر، فصاروا لا يحصون كثرة، ولا تطيق العقول مخالفة جمع بهذه الصفة إلا بتأييد إلهي بقاطع نقلي، والآية على قراءة أبي جعفر من الاحتباك: فعل التقول أولاً دليل على فعل الكذب ثانياً، ومصدر الكذب ثانياً دليل على مصدر التقول أولاً، وسره أن التقول دال على التعمد فهو أفحش معنى والكذب أفحش لفظاً، وهذا مرشد إلى أنه لا ينبغي التقليد في شيء لأن الثقة بكل أحد عجز، وإنما ينكشف ذلك بالتجربة، والتقليد قد يجر إلى الكفر المهلك هلاكاً أبدياً، وإليه أرشد النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان عن النعمان ابن بشير رضي الله عنه بأن "من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه" وفي ذلك غاية الحث على أن الإنسان لا يقدم ولا يحجم في أصول الدين إلا بقاطع.
ولما علم من قولهم أن مستند الضلال ظنون وشبه متى حكت على محك النظر بان فسادها، وأظهر زيفها نقادها، أتبعه شبهة أخرى زادت الفريقين ضلالاً بعضهم ببعض للتقيد بالمحسوسات، والوقوف مع الخيالات الموهومات، فقال حاكياً عنهم تنبيهاً على عدم الاغترار بالمدح والإطراء الموجبين للغلط في النفس وعلى أنه يجب التثبت حتى لا يقع الغلط في الأسباب المسخرة فيظن أنها مؤثرة فيتجاوز بها الحد عن رتبة الممكنات إلى رتبة الواجب، مؤكدين لأنه لا يكاد يصدق أن الجن يخاطبهم الإنس فيكارمونهم: { وأنه } أي الشأن { كان رجال } أي ذوو قوة وبأس { من الإنس } أي النوع الظاهر في عالم الجنس { يعوذون } أي يلجؤون ويعتصمون - خوفاً على أنفسهم وما معهم - إذا نزلوا وادياً { برجال من الجن } أي القبيل المستتر عن الأبصار فإنه كان القوم منهم إذا نزلوا وادياً أو غيره من القفر تعبث بهم الجن في بعض الأحيان لأنه لا مانع لهم منهم من ذكر الله تعالى ولا دين صحيح، ولا كتاب من الله صريح، فحملهم ذلك على أن يستجيروا بعظمائهم فكان الرجل يقول عند خوفه: إني أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر سفهاء قومه أو نحو هذا فلا يرى إلا خيراً، وربما هدوه إلى الطريق وردوا عليه ضالته، فكان ذلك فتنة للإنس باعتقادهم في الجن غير ما هم عليه، فتبعوهم في الضلال، وفتنة الجن بأن يغتروا بأنفسهم ويقولوا سدنا: الجن والإنس، فيضلوا ويضلوا، ولذلك سبب عنه قوله: { فزادوهم } أي الإنس الجن باستعاذتهم هذه المرتب عليها إعاذتهم، والجن الإنس بترئيس الإنس لهم وخوفهم منهم { رهقاً * } أي ضيقاً وشدة وغشياناً لما هم فيه من أحوال الضلال التي يلزم منهم الضيق والشدة، وأصل الرهق غشيان بقوة وشدة وقهر، وقال البغوي: والرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم. كما يتفق لمن يسلك من أهل التصوف على غير أصل فيرى في أثناء السير أنواراً وأشياء تعجبه شيطانية فيظنها رحمانية، فيقف عندها ويأنس بها لفساد في أصل جبلته نشأ عنه سوء مقصده، فربما كان ذلك سبباً لكفره فيزداد هو وأمثاله من الإنس ضلالاً ويزداد من أضله من الجن ضلالاً وإضلالاً وعتواً، ويزداد الفريقان بعداً عن اللجأ إلى الله وحده، ولقد أغنانا الله سبحانه وتعالى بالقرآن والذكر المأخوذ عن خير خلقه بشرطه في أوقاته عن كل شيء كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن من قال عند إتيانه الخلاء
"بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" ستر عن الجن، وأن من قال إذا أتى امرأته "اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني" فأتاه ولد لم يقدر الشيطان أن يضره، ومن أذن أمن تغول الغيلان، وروى الترمذي وأحمد - قال المنذري: ورواته رواة الصحيح - عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مسلم يأخذ مضجعه فيقرأ سورة من كتاب الله تعالى إلا وكل الله تعالى به ملكاً فلا يقربه شيء يؤذيه حتى يهب متى هب" وللطبراني في الكبير - قال المنذري: ورواته رواة الصحيح إلا المسيب بن واضح، قال الهيثمي: وهو ضعيف وقد وثق - عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: "خرجت من حمص فآواني الليل إلى البقيعة فحضرني من أهل الأرض فقرأت هذه الآية من الأعراف { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } [الأعراف: 54] إلى آخر الآية، فقال بعضهم لبعض: احرسوه الآن حتى يصبح، فلما أصبحت ركبت دابتي" والأحاديث في هذا كثيرة في آية الكرسي وغيرها، وكذا حكايات من اعترضه بعض الجن فلما قرأ ذهب عنه.
ولما كان التقدير: فضل كل من الفريقين بالآخر ضلالاً بعيداً حتى أبعدوا عن الشرائع النبوية، واعتقدوا ما لا يجوز اعتقاده من التعطيل واعتقاد الطبيعة، فلا يزال الأمر هكذا أرحام تدفع وأرض تبلع ولا رسول يهديهم ولا بعث للأرض على بارئهم، عطف عليه قولهم مؤكدين في قراءة الكسر إشارة إلى ظهور دلائل البعث، وأنه لا يكاد يصدق أن أحداً يكذب به منبهاً على أن الأهواء والأغاليط قد يتطابق عليها الجم الغفير، حثاً للمهتدي على أن لا يستوحش في طريق الهدى لقلة السالكين، ولا يغر بطرق الردى لكثرة الهالكين: { وأنهم } أي الإنس إن كانوا يخاطبون الجن، والجن إن كانوا يخاطبون الإنس { ظنوا } أي الجن أو الإنس ظناً ليسوا فيه على ثلج والظن قد يصيب، وقد يخطىء وهو أكثر { كما ظننتم } أي أيها الجن أو الإنس، والمعنى في قراءة الفتح: وأوحى إليّ أن الإنس أو الجن ظنوا، وسدوا عن مفعولي "ظن" بقولهم: { أن } أي أن الشأن العظيم { لن } أكد للدلالة على شدة إنكارهم لذلك { يبعث } وأشاروا إلى خطأ هذا الظن بالتعبير بالجلالة فقالوا: { الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة { أحداً * } أي بعد موته لما لبس به عليهم إبليس حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن، أو أحد من الرسل يزيل به عماية الجهل وما عليه الإنس من استغواء الجن لهم وغير ذلك من الضلال، وقد ظهر بالقرآن أن هذا الظن كاذب وأنه لا بد من البعث في الأمرين لأنه حكمة الملك وخاصة الملك.
ولما كان عدم البعث من خلل في القدرة، شرعوا في إثبات تمام القدرة على وجه دال على صحة القرآن وحراسته من الجان، لئلا يظن أنه من نحو ما للكهان، فقالوا مؤكدين في قراءة الكسر لاستبعاد الوصول إلى السماء حثاً على طلب المهمات وإن بعد مكانها: { وأنا } ولما كان يعبر عن الإمعان في التفتيش بالالتماس، وكان تجريد الفعل أعظم من ذلك للدلالة على الخفة وعدم الكلفة قال: { لمسنا السماء } أي الدنيا التمسنا أخبارها على ما كان من عادتنا لاستماع ما يغوى به الإنسان التماساً هو كالحس باللمس باليد { فوجدناها } من جميع نواحيها وهو من الوجدان { ملئت } أي ملأً هو في غاية السهولة والخفة على فاعله { حرساً } أي حراساً اسم جمع، فهو مفرد اللفظ، ولذلك وصف بقوله: { شديداً } أي بالملائكة { وشهباً * } جمع سهاب وهو المتوقد من النار، فعلت هممهم حتى طلبوا المهمات الدنيوية والشهوات النفسانية من مسيرة خمسمائة سنة صعوداً، فأفّ لمن يكسل عن مهمات الدين المحققة من مسيرة ساعة أو دونها، وأن يقعد في مجلس العلم ساعة أو دونها، والتعبير بالملء يدل على أنها كانت قبل ذلك تحرس لكن لا على هذا الوجه فقيل: إنها حرست لنزول التوراة ثم اشتد الحرس للانجيل ثم ملئت لنزول القرآن فمنعوا من الاستماع أصلاً إلا ما يصدق القرآن إرهاصاً للنبوة العظمى الخاتمة لئلا يحصل بهم نوع لبس.
ولما أخبروا عن حالها إذ ذاك لأنه الأهم عندهم، أخبروا عن حالها قبل، فقالوا مؤكدين لما للإنس من التكذيب بوصول أحد إلى السماء: { وأنا كنا } أي فيما مضى { نقعد منها } أي السماء { مقاعد } أي كثيرة قد علمناها لا حرس فيها فهي صالحة { للسمع } أي لأن نسمع منها بعض ما تتكلم به الملائكة بما أمروا بتدبيره، وقد جاء في الخبر أن صفة قعودهم هي أن يكون الواحد منهم فوق الآخر حتى يصلوا إلى السماء، قال أبو حيان: فمتى احترق الأعلى كان الذي تحته مكانه فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان فيزيدون معها الكذب.
ولما كان التقدير: فنستمع منها فنسمع ما يقدر لنا من غير مانع، عطف عليه قوله: { فمن يستمع } أي يجتهد في الوصول إلى السمع { الآن } أي في هذا الوقت فيما يستقبل أنهم قسموا الزمان إلى ما كان من إطلاق الاستماع لهم وإلى ما صار إليه الحال من الحراسة، وأطلقوا "الآن" على الثاني كله، لأنهم أرادوا وقت قولهم فقط أو أرادوه لأنهم يعلمون ما بعده فيجوزون أن يكون الحال فيه على غير ذلك { يجد له } أي لأجله { شهاباً } أي شعلة من نار ساطعة محرقة.
ولما كان الشهاب في معنى الجمع لأن المراد أن كل موضع منها كذلك، وصفه باسم الجمع فقال: { رصداً * } أي يرصده الرامون به من غير غفلة، ويجوز أن يكون مصدراً على المبالغة كرجل عدل، والرصد الترقب لأنه لما كان لا تأخر عن رميه عند الدنوّ من السماء كان كأنه هو الراصد له، المراقب لأمره، الملاحظ الذي لا فتور عنده ولا غفلة بوجه بل هو الرصد وهو المعنى بنفسه، فمتى تسنم للاستماع رمي به فيمنعه من الاستماع وإن أدركه أحرقه، وأما السمع فقد امتنع لقوله تعالى
{ إنهم عن السمع لمعزولون } [الشعراء: 212].