التفاسير

< >
عرض

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ
٢٦
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ
٢٧
لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ
٢٨
لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ
٢٩
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ
٣٠
-المدثر

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما انقضى بيان عناده فحصل التشوف لتفصيل جزائه في معاده، قال مبيناً لبعض ما أفهمه إرهاقه الصعود: { سأصليه } أي بوعيد لا بد منه عن قرب { سقر * } أي الدركة النارية التي تفعل في الأدمغة من شدة حموها ما يجل عن الوصف، فأدخله إياها وألوّحه في الشدائد حرها وأذيب دماغه بها، وأسيل ذهنه وكل عصارته بشديد حرها جزاء على تفكيره، هذا الذي قدره وتخيله وصوره بإدارته في طبقات دماغه ليحرق أكباد أولياء الله وأصفيائه.
ولما أثبت له هذا العذاب عظمه وهوله بقوله: { وما أدراك } أي أعلمك وإن اجتهدت في البحث { ما سقر * } يعني أن علم هذا خارج عن طوق البشر لا يمكن أن يصل إليه أحد منهم بإعلام الله له لأنه أعظم من أن يطلع عليه بشر. ولما أثبت لها هذه العظمة، زادها عظماً ببيان فعلها دون شرح ماهيتها فقال: { لا تبقى } أي سقر هذه لا تترك شيئاً يلقى فيها على حالة البقاء على ما كان عليه { ولا تذر * } أي تترك على حالة من الحالات ولو كانت أقبح الحالات فضلاً عما دونها، بل هي دائمة الإهلاك لكل ما أذن فيه والتغيير لأحوال ما أذن لها في عذابه، ولم يؤذن في محقه بالكلية، لكل شيء فترة وملال دونها.
ولما كان تغير حال الإنسان إلى دون ما هو عليه غائطاً له موجعاً إذا كان ذلك تغير لونه لأن الظاهر عنوان الباطن، قال الله تعالى دالاً على شدة فعلها في ذلك: { لواحة } أي شديدة التغيير بالسواد والزرقة واللمع والاضطراب والتعطيش ونحوها من الإفساد من شدة حرها، تقول العرب: لاحت النار الشيء - إذا أحرقته وسودته { للبشر * } أي للناس أو لجلودههم، جمع بشرة وجمع البشر أبشار { عليها } أي مطلق النار بقرينة ما يأتي من الخزنة { تسعة عشر * } أي ملكاً، لطبقة المؤمنين وهي العليا ملك واحد، وللست الباقية ثمانية عشر، لكل واحدة ثلاثة، لأن الواحد يؤازر بثان، وهما يعززان بثالث، فلذا والله أعلم كانوا ثلاثة، أو لأن الكفر يكون بالله وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكان لكل تكذيب في كل طبقة من طبقاتها الست ملك أو صنف من الملائكة، وعلى الأول في كونهم أشخاصاً بأعيانهم أكثر المفسرين، وقد علم مما مضى أنهم غلاظ شداد كل واحد منهم يكفي لأهله الأرض كلهم كما أن ملكاً واحداً وكل بقبض جميع الأرواح، وجاء في الآثار أن أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي، يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، نزعت منهم الرحمة، يدفع أحدهم سبعين ألفاً فيرميهم حيث أراد من جهنم، قال عمرو بن دينار: إن واحداً منهم يدفع بالدفعة الواحدة أكثر من ربيعة ومضر. وقيل: إن هذه العدة لمكافأة ما في الإنسان من القوى التي بها ينتظم قوامه، وهي الحواس الخمس الظاهرة: السمع والبصر والشم والذوق واللمس، والخمس الباطنة: المتخيلة والواهمة والمفكرة والحافظة والذاكرة، وقوتا الشهوة والغضب، والقوى الطبيعية السبع: الماسكة والهاضمة والجاذبة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة، وقيل: اختير هذا العدد لأن التسعة نهاية الآحاد، والعشرة بداية العشرات، فصار مجموعهما جامعاً لأكثر القليل وأقل الكثير، فكان أجمع الأعداد، فكان إشارة إلى أن خزنتها أجمع الجموع، ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أن قراءة البسملة تنجي من خزنة النار فإنها تسعة عشر حرفاً، كل حرف منها لملك منهم.