التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ وَٱلْقَمَرِ
٣٢
وَٱللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ
٣٣
وَٱلصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ
٣٤
إِنَّهَا لإِحْدَى ٱلْكُبَرِ
٣٥
نَذِيراً لِّلْبَشَرِ
٣٦
لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ
٣٧
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ
٣٨
إِلاَّ أَصْحَابَ ٱلْيَمِينِ
٣٩
فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ
٤٠
عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ
٤١
-المدثر

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان حصرها في الذكرى ربما أوهم نقصاً في أمرها يوجب لبعض المعاندين ريبة في عظمه وأنه لا حقيقة لها ولا عذاب فيها، قال رادعاً من ذلك ومنبهاً على الاستعداد والحذر بكلمة لاردع والتنبيه: { كلا } أي إياك أن ترتاب في أهوالها وعظيم أمرها وأحوالها وأوجالها لأن الأمر أطم وأعظم مما يخطر بالبال، فليرتدع السامع ولينزجر.
ولما حصر أمرها في الذكرى ونفى أن يظن بها نقص فيما جعلت له تأكيداً للكلام إشارة إلى ما لأغلب المخاطبين من الشكاسة والعوج إيقاظاً مما هم فيه من الغفلة وتلطيفاً لما لهم من اللوم والكثافة وتنبيهاً لهم على السعي في تقويم أنفسهم بما يستعملونه من الأدوية التي يرشدهم سبحانه إلى علاج أمراض القلوب بها، زاد الأمر تأكدياً فأقسم على ذلك بما هو ذكرى للناس ولا يظهر معه ظلام الليل كما أن ضياء القرآن لا يظهر معه ظلام الجهل من أعمل عين فكرته، وألقى حظوظ نفسه، فقال: { والقمر * } أي الذي هو آية الليل الهادية لمن ضل بظلامه { واليل إذا أدبر * } أي مضى فانقلب راجعاً من حيث جاء فانكشف ظلامه فزال الجهل بانكشافه، وانصرفت الريب والشكوك بانصرافه { والصبح إذا أسفر * } أقبل ضياؤه فجل العلم بحلوله، وحصلت الهداية بحصوله، أو دبر بمعنى "أقبل" قال قطرب: تقول العرب: دبرني فلان أي جاء خلفي.
ولما أقسم على ما أخبر به من ذكراها، وأكده لإنكارهم العظيم لبلاياها استأنف تعظيمها والتخويف منها تأكيداً للتخويف لما تقدم من الإنكار فقال: { إنها } أي النار التي سقر دركة من دركاتها، وزاد في التأكيد على مقتضى زيادتهم في الاستهزاء فقال: { لإحدى الكبر * } أي من الدواهي والعظائم، جمع كبيرة وكبرى، وهو كناية عن شدة هولها كما يقول: هو أحد الرجال أي لا مثل له، أو المراد بها واحدة سبع هي غاية في الكبر أي دركات النار، وهو جهنم فلظى فالحطمة فالسعير فسقر فالجحيم فالهاوية، هي إحداها في عظيم أقطارها وشديد إيلامها وإضرارها، حال كونها { نذيراً } عظيماً أو من جهة نذارتها أو إنذاراً بالغاً: فعيل بمعنى المصدر مثل
{ فكيف كان نكير } [الملك: 18] أي إنكاري، وعبر بقوله: { للبشر * } لما تقدم من الإشارة إلى إسراع الجسم العادي في قبول التأثر لا سيما بالنار.
ولما كان التقدم عند الناس لا سيما العرب محبوباً والتأخر مكروهاً، وكان سبحانه وتعالى قد خلق في الإنسان قوة واختياراً بها يفعل ما قدره الله له وغطى عنه علم العاقبة حتى صار الفعل ينسب إليه وإن كان إنما هو بخلق الله، قال تعالى باعثاً لهم على الخير ومبعداً من الشر مستأنفاً أو مبدلاً جواباً لمن يقول: وما عسى أن نفعل؟ أو ينفع الإنذار وقد قال إنه هو الهادي المضل { يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } { لمن شاء } أي بإرادته، وصرح بالمقصود لئلا يتعنت متعنتهم فيقول: المراد غيرنا، فقال: { منكم } أي أيها المعاندون { أن يتقدم } أي إلى الخيرات { أو يتأخر * } أي عنها فيصل إلى غضب الله تعالى والنار التي هي أثر غضبه، التي جعل ما عندنا من مؤلم الحر ومهلك البرد متأثراً عن نفسيها تذكيراً لنا ورحمة بنا، وحذف المفعول لأن استعماله كثير حتى صار يعرف وإن لم يذكر، وترجمة ذلك: لمن شاء أن يتقدم التقدم بما له من المكنة والاختيار في ظاهر الأمر، ولمن شاء أن يتأخر التأخر، و { أن يتقدم } مبتدأ، وهو مثل "لمن يتوضأ أن يصلي" ويجوز أن تكون الجملة بدلاً من "للبشر" على طريق الالتفات من الغائب إلى الحاضر ليصير كل مخاطب به كأنه هو المقصود بذلك بالقصد الأول فيتأمل المعنى في نفسه فيجده صادقاً ثم يتأمل فلا يجد مانعاً من تعديته إلى غيره من جميع البشر، ويكون "أن" والفعل على هذا مفعولاً لـ"شاء".
ولما كان التقدم والتأخر بالأفعال، وكان أكثر أفعال الإنسان الشر لما جبل عليه من النقصان، قال مبيناً لما يقدم وما يؤخر { كل نفس } أي ذكر أو أنثى على العموم { بما كسبت } أي خاصة لا بما كسب غيرها { رهينة * } أي مرتهنة بالفعل، اسم بمعنى. الرهن كما في قول الحماسي:

أبعد الذي بالنعف نعف كويكب رهينة رمس ذي تراب وجندل

لا تأنيث "رهين" الذي هو وصف، لأن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي مذكره ومؤنثه، ولو كانت الفواصل التي يعبرون بها عن السجع تأدباً تراعى في القرآن بوجه لقيل: رهين - لأجل يمين، ولكن لا نظر فيه لغير المعنى، ويجوز أن تكون الهاء للمبالغة بمعنى موثقة إيثاقاً بليغاً محبوسة حبساً عظيماً فهي في النار، فجعل الأصل في الكسب الموثق.
ولما كان الرهن تارة يفك وتارة يغلق، وكان أكثر الخلق هالكاً، جعل رهينة بمعنى هالكة، ثم استثنى الممدوح فقال: { إلا أصحاب اليمين * } أي الذين تقدم وصفهم وهم الذين تحيزوا إلى الله فائتمروا بأوامره وانتهوا بنواهيه، فإنهم لا يرتهنون بأعمالهم، بل يرحمهم الله فيقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم.
ولما أخرجهم عن حكم الارتهان الذي أطلق على الإهلاك لأنه سببه، استأنف بيان حالهم فقال: { في جنات } أي بساتين في غاية العظم لأنهم أطلقوا أنفسهم وفكوا رقابهم فلم يرتهنوا، فالآية من الاحتباك: أثبت أولاً الارتهان دليلاً على حذف ضده ثانياً، وأثبت ثانياً الجنة دليلاً على حذف ضدها أولاً.
ولما كان السؤال عن حال الغير دالاً دلالة واضحة على الراحة والفراغ عن كل ما يهم النفس، عبر عن راحتهم في أجل وعظ وألطف تحذير بقوله: { يتساءلون * } أي فيما بينهم يسأل بعضهم بعضاً { عن المجرمين * } أي أحوال العريقين في قطع ما أمر الله به أن يوصل.