التفاسير

< >
عرض

يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ
١٣
بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
١٤
وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ
١٥
لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
١٦
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
١٧
-القيامة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان موضع السؤال عن علة هذا الاستقرار، قال مستأنفاً بانياً للمفعول لأن المنكىء إنما هو كشف الأسرار لا كونه من كاشف معين، وللدلالة على يسر ذلك عليه سبحانه وتعالى بأن من ندبه إلى ذلك فعله كائناً من كان: { ينبؤا } أي يخبر تخبيراً عظيماً مستقصىً { الإنسان يومئذ } أي إذ كان هذا الزلزال الأكبر { بما قدم } أي من عمله العظيم { وأخر * } أي في أول عمره وآخره - كناية عن الاستقصاء أو بما قدمه فآثره على غيره هل هو الشرع أو الهوى أو بما عمل في مدة عمره وبما أخر عمله لمعاجلة الموت له عنه فيخبر بما كان يعمله من أمله لو مد في أجله، أو الذي قدمه هو ما عمله بنفسه وما أخره هو ما سنه فعمل به الناس من بعده من خير أو شر - قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وعليه مشى الغزالي في الباب الثالث من كتاب البيع من الإحياء.
ولما عظم القيامة بكشف الأسرار فيها والإنباء بها، وكان الشأن أن الإنسان لا ينبأ إلا بما هو جاهل له أو غائب عنه، وكان مما يخف على الإنسان في الدنيا النسيان، وكان ذلك اليوم يوم كشف الغطاء، زاده عظماً بالإعلام بأنه يجلو بصيرة الإنسان حتى يصير مستحضراً لجميع ما له من شأن، فكان التقدير: وليس جاهلاً بشيء من ذلك ولا محتاجاً إلى الإنباء به، قال بانياً عليه: { بل الإنسان } أي كل واحد من هذا النوع { على نفسه } خاصة { بصيرة * } أي حجة بينة على أعماله، فالهاء للمبالغة - يعني أنه في غاية المعرفة لأحوال نفسه فإنه إذا تأمل وأنعم النظر ولم يقف مع الحظوظ عرف جيد فعله من رديئه، أما في الدنيا فلان الفطر الأولى شاهدة بالخير والشر - كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله:
"البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في الصدر وترددت فيه النفس وإن أفتاك الناس وأفتوك" رواه الإمام أحمد عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت" - رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأما في الآخرة فإن الله يعطيه في ذلك اليوم قوة الذكرى حتى تصير أعماله كلها بين عينيه لأنه تعالى ينفي عنه الشواغل البدنية ويكشف عنه الحجب النفسانية حتى تصير أعماله ممثلة له كأنه يراها ولا تنفعه معذرته، لأن كل شيء يعتذر به عن نفسه يعرف كذبه بنفس وجوده لا بشيء خارج عنه تارة يكون خالقه أوجده على ما هو عليه من العلم وسلامة الأسباب المزيلة للعلل وتارة بإنطاق جوارحه.
ولما كان الإنسان يعتذر في ذلك اليوم عن كل سوء عمله، ويجادل أعظم مجادلة، وكان المجادل في الغالب يظن أنه لم يذنب أو لا يعلم له ذنباً، قال: { ولو ألقى } أي ذكر بغاية السرعة ذلك الإنسان من غير تلعثم دلالة على غاية الصدق والاهتمام والتملق { معاذيره * } أي كل كلام يمكن أن يخلص به، جمع عذر أو معذرة وهو إيساع الحيلة في دفع الخلل: وقال في القاموس: المعاذير: الستور والحجج جمع معذار، وذلك لاشتراكهما في مطلق الستر بالفتح والستر بالكسر في ستر المذنب والحجة في ستر الذنب فالمعنى أنه حجة على نفسه ولو احتج عنها واجتهد في ستر عيوبها، فلا تقبل منها الأعذار، لأنه قد أعطى البصيرة فأعماها بهون النفس وشهواتها، وتلك البصيرة هي نور المعرفة المركوز في الفطرة الأولى وهي كقوله تعالى: { لا ينفع الظالمين معذرتهم }.
ولما كان معنى هذا كله أن الإنسان محجوب في هذه الدار عن إدراك الحقائق بما فيه من الحظوظ والكسل والفتور، لما فيه من النقائص، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مبرءاً من ذلك لخلق الله له كاملاً وترقيته بعد ميلاده كل يوم في مراقي الكمال حتى صار إلى حد لا يشغله عن العلوم شيء فكان بحيث يرى مواقع الفتن خلال البيوت كمواقع القطر، ويرى من ورائه كما يرى من أمامه، ويقول:
"والله لا يخفى عليّ خشوعكم ولا ركوعكم إني أراكم من وراء ظهري" وكان صلى الله عليه وسلم يرى في أشد الظلام وغير ذلك مما له صلى الله عليه وسلم من رقة الجوهر الذي لم ينله أحد غيره، وذلك مما يدل على الكشف التام ولكنه كان صلى الله عليه وسلم لتعظيمه لهذا القرآن لما له في نفسه من الجلالة ولما فيه من خزائن السعادة والعلوم التي لا حد لها فتستقصى، ولأنه كلام الملك الأعظم، وبأمره نزل إليه صلى الله عليه وسلم مع رسوله جبريل عليه الصلاة والسلام، يعالج عند سماعه أول ما يأتيه شدة، فكان يحرك به لسانه استعجالاً بتعهده ليحفظه ولا يشذ عنه منه شيء، وكان قد ختم سبحانه ما قبلها بالمعاذير، وكانت العجلة مما يعتذر عنه، وكان الحامل على جميع ما يوجب الملامة والاعتذار ما طبع عليه الإنسان من حب العاجل، قال سبحانه نتيجة عن هذه المقدمات الموجبة لانكشاف الأشياء للإنسان الموجب للإخبار بها والخوف من عواقبها لئلا يميل إلى العاجلة ولا يقع في مخالفة لولا ما شغله به من الحجب إعلاماً بأنه سبحانه وتعالى قد دفع عن النبي صلى الله عليه وسلم تلك الحجب وأوصله من رتبة "لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً" إلى أنهاها، وأنه قادر على ما يريد من كشف ما يريد لمن يريد كما يكشف لكل إنسان عن أعماله في القيامة حتى يصير يعرف ما قدم منها وما أخر، وتنبيهاً على أنه صلى الله عليه وسلم لا كسب له في هذا القرآن بغير حسن التلقي إبعاداً له عن قول البشر وتمهيداً بما يحرك من لسانه بالقرآن قبل تمام الإلقاء لذم ما طبع عليه الإنسان: { لا تحرك به } أي القرآن الذي هو تذكرة من شاء ذكره لولا حجاب المشيئة، وقد كشف سبحانه وتعالى حجاب المشيئة لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وشاء أن يذكره حين قال { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } [الإنسان: 30] لأنه ما نزله إليه بغير اكتساب منه إلا وقد شاء ذلك { لسانك } الذي ليست له حركة إلا في ذكر الله تعالى.
ولما لم يكن لهذا التحريك فائدة مع حفظ الله له على كل حال إلا قصد الطاعة بالعجلة، وكانت العجلة هي الإتيان بالشيء قبل أوانه الأليق به، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم مثاباً على ذلك أعظم الثواب لأنه لا حامل له عليه إلا حب الله وحب ما يأتي منه، وجعلها الله سبحانه وتعالى علة وإن لم تكن مقصودة فقال: { لتعجل به } أي بحمله وأخذه قبل أن يفرغ من إلقاءه إليك رسولنا جبريل عليه الصلاة والسلام مخافة أن ينفلت منك، لأن هذه العجلة وإن كانت من الكمالات بالنسبة إليك وإلى إخوانك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما قال موسى عليه الصلاة والسلام:
{ وعجلت إليك رب لترضى } [طه: 84] لأنها من النفس اللوامة التي تلوم على ترك المبادرة إلى أفعال الخير فغيرها من أفعال المطمئنة أكمل منها، فنقل صلى الله عليه وسلم من مقام كامل إلى أكمل منه، وكان هذا الكلام المتعلق بالقرآن والذي بعده فرقاناً بين صفتي اللوامة في الخير واللوامة في الشر، والآية ناظرة إلى قوله تعالى في المدثر حكاية "إن هذا إلا قول البشر" وما بينهما اعتراض في وصف حال القيامة جر إليه قوله تعالى: { سأصليه سقر } [المدثر: 26] أي أن الذي خيل به المتقول في القرآن أمران: أحدهما أنه سحر والآخر أنه قول البشر، والعلم اليقين حاصل بانتفاء الأول، وأما الثاني فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى أن لا يتقن حفظه فتدخل عليه كلمة مثلاً فيكون من قول البشر فنهاه الله تعالى عن العجلة وضمن له الحفظ، ثم علل هذا النهي بقوله مؤكداً لأنه من مجراته: { إن علينا } أي بما لنا من العظمة، لا على أحد سوانا { جمعه } أي في صدرك حتى نثبته ونحفظه { وقرآنه * } أي إطلاق لسانك به وإثباته في رتبته من الكتاب حال كونه مجموعاً أتم جمع ميسراً حسن تيسير فأرح نفسك مما تعالج في أمره من المشقة وتكابده من العناء.