التفاسير

< >
عرض

تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ
٢٥
كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ
٢٦
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ
٢٧
وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ
٢٨
وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ
٢٩
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ
٣٠
فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ
٣١
وَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
٣٢
-القيامة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان ظن الشر كافياً في الحذر منه والمبالغة في استعمال ما يحمي منه، قال دالاً على أنه عبر بالوجه عن الجملة: { تظن } أي تتوقع بما ترى من المخايل: { أن يفعل } بناه للمفعول لأن المحذور وقوع الشر لا كونه من معين { بها } أي بهم فإنه إذا أصيب الوجه الذي هو أشرف ما في الجملة كان ما عداه أولى { فاقرة * } أي داهية تكسر الفقار وهو عظم سلسلة الظهر الذي هو أصلب ما في العظام فتكون قاصمة الظهر، فالآية من الاحتباك: ذكر النظر في الأولى دليل على ضده في الثانية، وذكر الفاقرة في الثانية دليل على ضدها في الأولى.
ولما ذكر محبتهم للعاجلة بالمضارع الدال على التجدد والاستمرار، فاقتضى ذلك أنه حب غيره منفك التجدد أصلاً، أخبر أنه ينقطع عن هول المطلع مع الدلالة على تمام القدرة، وأنه لا يرد قضاؤه، فقال رادعاً لمن يظن عدم انقطاعه: { كلا } أي لا يدوم هذا الحب بل لا بد أن ينقطع انقطاعاً قبيحاً جداً. ولما كان المحب للدنيا هو النفس، أضمرها لذلك ولدلالة الكلام عليها فقال ذاكراً ظرف ما أفهم حرف الردع تقديره من عدم المحبة: { إذا بلغت } أي النفس المقبلة على العاجلة بأمر محقق - بما أفهمته أداة التحقق { التراقي * } أي عظام أعالي الصدر، جمع ترقوة وهي العظام التي حول الحلقوم عن يمين ثغرة النحر وشمالها بين الثغرة وبين العاتق، ولكل إنسان ترقوتان، وهو موضع الحشرجة، لعله جمع المثنى إشارة إلى شدة انتشارها بغاية الجهد لما هي فيه من الكرب لاجتماعها من أقاصي البدن إلى هناك وضيق المجال عليها كأنها تريد أن تخرج من أدنى موضع يقرب منها، وهذا كناية عن الإشفاء على الموت وما أحسن قول حاتم الطائي وأشد التئامه مع ما هنا من أمر الروح:

أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

ولما كان أهل الميت يشتد انزعاجهم إذ ذاك ويشتد تطلبهم لما ينجي المحتضر من غير أن يفيدهم ذلك شيئاً، فكان قولهم كأنه لا قائل له على التعيين، بني للمفعول قوله: { وقيل } أي من كل قائل يعز عليه الميت استفهام استبعاد: { من راق * } أي من هو الذي يتصف برسوخ القدم في أمر الرقى الشافية ليرقيه فيخلصه مما هو فيه فإنه صار إلى حالة لا يحتمل فيها دواء فلا رجاء إلا في الرقى، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا القول من بعض الملائكة للاستفهام عمن يرقى بروحه إلى السماء: أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ فالأول اسم فاعل من رقى يرقى بمعنى الرقية بالفتح في الماضي والكسر في المضارع، والثاني الذي بمعنى الصعود بالكسر في الماضي والكسر في المضارع.
ولما كان الإنسان مطبوعاً على الترجح بين الأمور الممكنة تتعلق لما يغلب عليه من طبع الإلف وشدة الركون لما يألفه بأدنى شيء، عبر عما هو أهل للتحقق بالظن فقال: { وظن } أي المحتضر لما لاح له من أمور الآخرة أو القائل "هل من راق" من أهله { أنه } أي الشأن العظيم الذي هو فيه { الفراق * } أي لما كان فيه من محبوب العاجلة الذي هو الفراق الأعظم الذي لا فراق مثله، ففي الخبر أن العبد ليعالج كرب الموت وسكراته وأن مفاصله ليسلم بعضها على بعض يقول: السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة: { والتفت الساق } أي هذا النوع { بالساق * } أي انضمت إليها واتصلت بها ودارت إحداهما بالأخرى فكانتا كالشيء الواحد، وهو كناية عن الموت لأن المشي لا يكون إلا مع انفصال إحدى الساقين عن الأخرى، أو عن اشتداد الأمر جداً وبعده عن الخلاص، فإن العرب لا تذكر الساق في مثل هذا السياق إلا في أمر شديد مثل "شمر عن ساق" وإذا اشتد حراب المتحاربين: "دنت السوق بعضها من بعض" فلا افتراق إلى عن موت أحدهما أو أشد من موته من هزيمته، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كناية عن اختلاط شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة، وجواب إذا محذوف تقديره: زال تعلقه الذي كان بالدنيا وحبه لها وإعراضه عن الآخرة.
ولما صور وقت تأسفه على الدنيا وإعراضه عنها، ذكر غاية ذلك فقال مفرداً النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهم هذا حق فهمه غيره: { إلى ربك } أي موعد وحكم المحسن إليك بإرسالك وتصديقك في جميع ما بلغته عنه ونصرك على كل من ناواك، لا إلى غيره { يومئذ * } أي إذ وقع هذا الأمر { المساق * } أي السوق وموضع السوق وزمانه، كل ذلك داخل في حكمه، قد انقطعت عنه أحكام أهل الدنيا، فإما أن تسوقه الملائكة إلى سعادة بينة وإما إلى شقاوة بينة، أو هو كناية عن عرضه بعد الموت على الله تعالى فلا ينفعه إذا حقق له الوعظ بالموت قوله: أموت فأستريح، فإنه يرجع بالموت إلى سيده، فإن كان مطيعاً لقيه بما يرضيه، وإن كان عاصياً لقيه بما يلقى به العبد الآبق على قدر إباقه.
ولما ذكر كراهته للآخرة ذكر أن سببه إفساده ما آتاه الله من قوى العلم والعمل بتعطيلهما عن الخير واستعمالهما في الشر فقال مبيناً عمل العبد الموافق والآبق، عاطفاً على
{ يسأل أيان } [القيامة: 6] الذي معناه جحد البعث: { فلا صدق } - أي هذا الإنسان الذي الكلام فيه - الرسول فيما أخبره بما كان يعمل من الأعمال الخبيثة، ولا إيمانه بالإنفاق في وجوه الخير التي ندب إليها واجبة كانت أو مسنونة، وحذف المفعول لأنه أبلغ في التعميم.
ولما ذكر أصل الدين، أتبعه فروعه دلالة على أن الكافر مخاطب بها فقال: { ولا صلّى * } أي ما أمر به من فرض وغيره، فلا تمسك بحبل الخالق ولا وصل إلى حبل الخلائق على حد ما شرع ما.
ولما نفى عنه أفعال الخير، أثبت له أفعال الشر فقال: { ولكن } أي فعل ضد التصديق بأن { كذب } أي بما أتاه من الله { وتولى * } أي وفعل ضد الصلاة التي هي صلة بين المخلوق والخالق، فاجتهد في خلاف ما تدعوه إليه فطرته الأولى المستقيمة من الإعراض عن الطاعة من الصلاة وغيرها حتى صار له ذلك ديدناً، فصارت الطاعة لا تخطر له بعد ذلك على بال لموت الفطرة الأولى وحياة النفس الأمارة بالسوء، وليس هذا بتكرار لأنه لا يلزم من عدم التصديق التكذيب.