التفاسير

< >
عرض

لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً
٢٣
لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً
٢٤
إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً
٢٥
جَزَآءً وِفَاقاً
٢٦
إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً
٢٧
وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً
٢٨
-النبأ

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما ذكر مصيرهم إليها ذكر إقامتهم فيها فقال حالاً من ضمير "الطاغين": { لابثين فيها } ولما كان جمع القلة يستعار للكثرة فكان الحقب يطلق على الزمان من غير حد، ويطلق على زمان محدود، فقيل على ثمانين سنة، وعلى سبعين ألف سنة، فكان السياق من تصدير السورة بالنبأ وبوصفه مع التعبير بالنبأ العظيم وما بعد ذلك يفهم أن المراد الدوام إن أريد ما لا حد له وأن المراد إن أريد المحدود جمع الكثرة، وأكثر ما فسر به الحقب، وأنه للمبالغة لا التحديد، كان جمع القلة هنا غير مشكل، فمن حمله على ما دون ذلك فكفاه زاجراً لم يضره التعبير به، ومن اجترأ عليه واستهان به كان فتنة له كما كان حصر عدد الخزنة للنار بتسعة عشر فلم يضر إلا نفسه، فلذلك عبر عن ظرف اللبث بقوله: { أحقاباً * } أي دهوراً عظيمة متتابعة لا انقضاء لها على أن التبعير به - ولو حمل على الأقل وجعل منقضياً - لا ينافي ما صرح فيه بالخلود لأنه أثبت شيئاً ولم ينف ما فوقه، وعن الحسن أنه قال: لا يكاد يذكر الحقب إلا حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها من غير انقضاء.
ولما كان المسكن لا يصلح إلا بالاعتدال والماء الذي هو حياة كل شيء، قال ذاكراً حال هذا اللبث: { لا يذوقون } أي ساعة ما فكيف بما فوق الذوق { فيها } أي النار خاصة، وكأنه أشار بتقديمه إلى أنهم يذوقون في دار أخرى الزمهرير { برداً } أي روحاً وراحة لنفعهم من الحر أو مطلق البرد { ولا شراباً * } من ماء أو غيره يغنيهم من العطش على حال من الأحوال { إلا } حال كون ذلك الشراب { حميماً } أي ماء حاراً يشوي الوجوه قد انتهى حره { و } حال كون ذلك الشراب مع حرارته، أو البر د { غساقاً * } أي عصارة أهل النار من القيح والصديد البارد المنتن، فالاستثناء على هذا موزع الحميم من الشراب والغساق من البرد، فالحميم شرابهم في دولة السعير، والغساق في دولة الزمهرير.
ولما حكم عليهم بهذا العذاب الذي لا يطاق، ذكر حكمته فقال إنه جزاهم بذلك { جزاء وفاقاً * } أي ذا وفاق لأعمالهم لأنهم كانوا يأخذون أموال الناس فيحرقون صدورهم عليها ويبردون بها الشراب ويصفونه ويبخرونه، فهم يحرقون الآن بعصارة غيرهم المنتنة، وكأنهم بعد الأحقاب - إن جعلت منقضية - يبدلون عذاباً غير الحميم والغساق، ثم علل عذابهم بقوله، مؤكداً تنبيهاً على أن الحساب من الوضوح بحالة يصدق به كل أحد، فلا يكاد يصدق أن أحداً يكذب به فلا يجوزه فقال: { إنهم كانوا } أي بما هو لهم كالجبلة التي لا تقبل غير ذلك فهم يفسدون القوى العلمية بأنهم { لا يرجون } أي في حال من الأحوال ولو رأوا كل آية { حساباً * } فهم لا يعملون بغير الشهوات، فوافق هذا خلودهم في النار، وعبر عن تكذيبهم بنفي الرجاء لأنه أبلغ، وذلك لأن الإنسان يطمع في الخير بأدنى احتمال.
ولما دل انتفاء رجائهم على تكذيبهم المفسد للقوة العلمية، صرح به على وجه أعم فقال: { وكذبوا بآياتنا } أي على ما لها من العظمة الدالة أنها من عندنا { كذاباً * } أي تكذيباً هو في غاية المبالغة بحيث لو سمعوا أكذب الكذب ما كذبوا به كما كذبوا بها، فكان تجريعهم لما لا يصح أن يشربه أحد - وإن جرع منه شيئاً مات في الحال من غير موت - لهم جزاء على تكذيبهم بالحوارق التي يجرعون بها الصادقين أنواع الحرق، وقرىء بالتخفيف للدلالة على أنهم كذبوا في تكذيبهم.