التفاسير

< >
عرض

ذٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ ٱلنَّارِ
١٤
يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ
١٥
وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٦
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٧
ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَافِرِينَ
١٨
إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٩
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ
٢٠
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ
٢١
-الأنفال

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

{ ذلكم } أي هو سبحانه بما له من هذا الوصف الهائل يذيق عدوه من عذابه ما لا طاقة لهم به ولا يدان، فيصير لسان الحال مخاطباً لهم نيابة عن المقال: الأمر الذي حذرتكم منه الرسل وأتتكم به الكتب وكنتم تستهزئون به أيها الكفرة هو هذا الأمر الشديد وقعه البعيد على من ينزل عليه دفعه دهمكم، فما لكم لا تدافعونه! كلا والله شغل كلاًّ ما قابله ولم يقدر أن يزاوله.
ولما كان ما وقع لهم في وقعة بدر من القتل والأسر والقهر يسيراً جداً بالنسبة إلى ما لهم في الآخرة، سماه ذوقاً لأنه يكون بالقليل ليعرف به حال الكثير فقال: { فذوقوه } أي باشروه قهراً مباشرة الذائق واعلموا أنه بالنسبة إلى ما تستقبلونه كالمذوق بالنسبة إلى المذوق لأجله { وأنَّ } أي والأمر الذي أتتكم به الرسل والكتب أن لكم مع هذا الذي ذقتموه في الدنيا، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً بالوصف فقال: { للكافرين } أي على كفرهم وإن لم يظهروا المشاققة { عذاب النار* } وهو مواقعكم وهو أكبر وسترون.
ولما قرر إهانتهم في الدنيا والآخرة بما حسر عليهم القلوب، حسن أن يتبع ذلك نهي من ادعى الإيمان عن الفرار منهم وتهديد من نكص عنهم بعد هذا البيان وهو يدعي الإيمان فقال: { يا أيها الذين آمنوا } أي بما أتاهم من عند ربهم { إذا لقيتم الذين كفروا } أي بآيات ربهم فشاققوه، وعبر عن حال لقائهم بالمصدر مبالغة في التشبيه فقال: { زحفاً } أي حال كونهم زاحفين محاربين وهم من الكثرة بحيث لا يدرك من حركتهم - وإن كانت سريعة - إلا مثلل الزحف { فلا تولوهم الأدبار* } أي هرباً منهم وإن كنتم أقل منهم { ومن يولهم } ولما كان الأغلب في وقوع القتال النهار، وكان التولية مما لا يكون الظرف معياراً له لأنها مما لا يمتد زمنه، فالعصيان يقع بمجرد الالتفات بقصد الفرار، والتمادي تكرير أمثال، لا شرط في صحة إطلاق الاسم، عبر باليوم، وجرده عن "في" ندباً إلى الكر بعد الفر مع عدم الالتباس، فإن الظرف لا يكون معياراً للفعل إلا إذا كان ممتد الزمان كالصوم فقال { يومئذ } أي إذ لقيتم على هذه الحالة في أيّ وقت كان من أوقات القتال من ليل كان أو نهار { دبره } أي يجعل ظهره إليهم لشيء من الأشياء تولية لا يريد الإقبال إلى القتال منها { إلا } أي حال كونه { متحرفاً } أو الحال التحرف، وهو الزوال عن جهة الاستواء { لقتال } أي لا يتسهل له إلا بذلك يخيل إلى عدوه أنه منهزم خداعاً له ثم يكر عليه { أو متحيزاً } أي متنقلاً من حيز إلى آخر ومتنحياً { إلى فئة } أي جماعة أخرى من أهل حزبه هم أهل لآن يرجع إليهم ليستعين بهم أو يعينهم.
ولما كان هذا محل توقع السامع للجواب وتفريغ ذهنه له، أجاب رابطاً بالفاء إعلاماً بأن الفعل المحدث عنه سبب لهذا الجزاء فقال: { فقد باء } أي رجع { بغضب من الله } اي الحائز لجميع صفات الكمال { ومأواه جهنم } أي تتجهمه كما أنه هاب تجهم الكفار ولقاء الوجوه العابسة بوجه كالح عابس { وبئس المصير* } هذا إذا لم يزد الكفار عن الضعف - كما سيأتي النص به.
ولما تقدم إليهم في ذلك، علله بتقرير عزته وحكمته، وأن النصر ليس إلا من عنده، فمن صح إيمانه لم يتوقف عن امتثال أوامره، فقال مسبباً عن تحريمه الفرار وإن كان العدو كثيراً، تذكيراً بما صنع لهم في بدر، ليجريهم على مثل ذلك، ومنعاً لهم من الإعجاب بما كان على أيديهم في ذلك اليوم من الخوارق { فلم تقتلوهم } أي حلَّ على المدبر الغضب لأنه تبين لكل مؤمن أنه تعالى لا يأمر أحداً إلا بما هو قادر سبحانه على تطويقه له، فإنه قد وضح مما يجري على قوانين العوائد أنكم لم تقتلوا قتلى بدر وإن تعاطيتم أسباب قتلهم، لأنكم لم تدخلوا قلوب ذلك الجيش العظيم الرعب الذي كان سبب هزيمتهم التي كانت سبب قتل من قتلتم، لضعفكم عن مقاومتهم في العادة، وفيه مع ذلك زجر لهم عن أن يقول أحد منهم على وجه الافتخار: قتلت كذا وكذا رجلاً وفعلت كذا { ولكن الله } أي الذي له الأمر كله فلا يخرج شيء عن مراده { قتلهم } أي بأن هزمهم لكم لما رأوا الملائكة وامتلأت أعينهم من التراب الذي رماهم به صلى الله عليه وسلم وقلوبهم جزعاً حتى تمكنتم من قتلهم خرق عادة كان وعدكم بها، فصدق مقاله وتمت أفعاله.
ولما رد ما باشروه إليه سبحانه، أتبعه ما باشره نبيه صلى الله عليه وسلم دلالة على ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما رأى قريشاً مقبلة قال: اللهم! هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، فقال جبرائيل عليه السلام: خذ قبضة من تراب فأرمهم بها، ففعل فملأت أعينهم فانهزموا فقال: { وما رميت } أي يا سيد المؤمنين الرمل في أعين الكفار { إذ رميت } أي أوقعت صورة قذفه من كفك، لأن هذا الأثر الذي وجد عن رميك خارق للعادة، فمن الواضح أنه ليس فعلك، وهذا هو الجواب عن كونه لم يقل: فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم، لأن زهوق النفس عن الجراح المثخن هو العادة، فهم الذين قتلوهم حين باشروا ضربهم، فلا يصح: فلم تقتلوهم حتى قتلتموهم، والمنفيّ إنما هو السبب المتقدم على القتل الممكن من القتل، وهو تسكين قلوبهم الناشىء عند إقدامهم وإرعاب الكفار الناشىء عند ضعفهم وانهزامهم الممكن منهم، فالمنفي عنهم البداية والمنفي عنه صلى الله عليه وسلم الغاية، أو أن الملائكة عليهم السلام لما باشرت قتل بعضهم صح أن ينفي عنهم قتل المجموع مطلقاً، أو أنهم لما افتخر بعضهم بقتل من قتل نفاه سبحانه عنهم مطلقاً لأن مباشرتهم لقتل من قتل في جنب ما أعد لهم من الأسباب وأيدهم به من الجنود عدم، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه فعل ما أمر به من رمي الرمل ولم يعد فعله ولا ذكره، فأثبته سبحانه له مع نفي تأثيره عنه وإثباته لمن إليه ترجع الأمور تأديباً منه سبحانه لهذه الأمة، أي لا ينظر أحد إلى شيء من طاعته، فإنا قد نفينا هذا الفعل العظيم عن أكمل الخلق مع أنه عالم مقر بأنه منا فليحذر الذي يرى له فعلاً من عظيم سطواتنا، ولكن لينسب جميع أفعاله الحسنة إلى الله تعالى كما نسب الرمي إليه بقوله: { ولكن الله } أي الذي لا راد لأمره { رمى } لأنه الذي أوصل أثره بما كان هازماً للكفار، فعل ذلك كله ليبلي الكفار منه بأيدي من أراد من عباده بلاء عاقبته سيئة { وليبلي المؤمنين } أي الراسخين في الإيمان { منه } أي وحده { بلاء حسناً } أي من النصر والغنيمة والأجر، ومادة بلاء يائية أو واوية بأيّ ترتيب كان تدور على الخلطة، وتارة تكون مطلقة نحو أبلاه عذراً، وتارة بكثرة ومحاولة وعناء وهو أغلب أحوال المادة، وتارة تكون للامتحان وأخرى لغيره، وماأباليه بالة - أظنه من البال الذي هو الخاطر فهو من بول لا بلو، أجوف لا من ذوات الأربعة، ومعناه: ما أفاعله بالبال، أي ما أكترث به فما أصرف خاطري إلى مخالطة أحواله حيث يصرف خاطره إليّ أي ما أفكر في أمره لهوانه عليّ وسيأتي بسط معاني المادة إن شاء الله تعالى في سورة يوسف عليه السلام عند قوله تعالى
{ ما بال النسوة } } [يوسف: 50] وهذه المادة معناها ضد الدعة، لأن هذه يلزمها شغل الخاطر الذي عنه ينشأ التعب بمدافعة الملابس، والدعة يلزمها هدوء السر وفراغ البال الذي هو منشأ الراحة، فمعنى الآية أنه تعالى فعل ذلك من الإمكان من إذلال الكفار ليخالطهم من شؤونه ما يكون لهم في مدافعته عاقبة سيئة، وليخالط المؤمنين من ذلك ما يكون لهم في مزاولته عاقبة حسنة بل أحسن من الراحة، لأنه يفضي بهم إلى راحة دائمة، والدعة تقضي إلى تعب طويل - والله موفق.
ولما ثبت بما مضى أن له تعالى الأفعال العظيمة والبطشات الجسمية. ودلت أقوال من قال من المؤمنين: إنا لم نتأهب للقاء ذات الشوكة، على ضعف العزائم؛ ختم الآية بقوله: { إن الله } أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال { سميع } أي لأقوالكم من الاستعانة في المعونة على النصرة وغيرها { عليم* } أي بعزائمكم وإن لم تتكلموا بها، فهو يجازي المؤمن على حسب إيمانه والكافر على ما يبدي ويخفي من كفرانه، الأمر { ذلكم } العظيم الشأن البعيد المتناول الذي أمركم فيه بأوامره ونهاكم به عن مناهيه وأبلاكم فيه البلاء الحسن، وأراكم بأعينكم توهينه لهذه الطائفة التي قصدتكم وأنتم عندها أكلة جزور وعصفور بين يدي صقور، وبين لكم من علل ذلك وعجائب مقدوره ما لم يبق معه عذر لمؤمن، فألزموا طاعته وسابقوا في طاعة رسوله ولا تنظروا في عاقبة شيء مما يأمر به، فإنه ما ينطق عن الهوى بل إنما يأمر عنا، ونحن لم نأمر بشيء إلا بعد تدبيره على أحكم الوجوه وأتقنها { وأنَّ } أي والأمر أيضاً أن { الله } أي الحاوي لجميع صفات العز والعظمة { موهن } أي مضعف إضعافاً شديداً ثابتاً دائماً أبداً { كيد الكافرين* } أي الراسخين في الكفر جميعهم، فلا تهنوا في ابتغاء القوم وإن نالكم قرح فإنا نجعله لكم تطهيراً وللكافرين تدميراً والعاقبة للتقوى، فنطلعكم على عوراتهم ونلقي الرعب في قلوبهم ونفرق كلمتهم وننقض ما أبرموا.
ولما تضمن ذلك إيقاع الإهانة بالكفار بهذه الوقعة، والوعد بإلزامهم الإهانة فيما يأتي، كان ذلك مفصلاً للالتفات إلى تهديدهم في قالب استجلائهم والاستهزاء بهم وتفخيم أمر المؤمنين فقال: { إن تستفتحوا } أي تسألوا الفتح أيها الكفار بعد هذا اليوم كما استفتحتم في هذه الوقعة عند أخذكم أستار الكعبة وقت خروجكم بقولكم: اللهم انصر أهدى الحزبين، وأكرم الجندين، وأعلى الفئتين، وأفضل الدينين، ووقت ترائي الجمعين؛ بقول أبي جهل: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعلم فأحنه الغداة؛ أتاكم الفتح كما أتاكم في هذا اليوم { فقد جاءكم } أي في هذا اليوم بنصر المؤمنين { الفتح } أي الذي استفتحتم له لأنهم أهدى الفئتين وأكرم الطائفتين { وإن تنتهوا } أي بعد هذا عن مثل هذه الأقوال والأفعال المتضمنه للشك أو العناد { فهو خير لكم } وقد رأيتم دلائل ذلك { وإن تعودوا } أي إلى المغالبة لأنكم لم تنتهوا { نعد } أي إلى خذلانكم { ولن تغني عنكم } أي أبداً { فئتكم } أي جماعتكم التي ترجعون إليها للاعتزاز بها { شيئاً } أي من الإغناء { ولو كثرت } لأن الله على الكافرين { وأنَّ الله } أي الملك الأعظم { مع المؤمنين* } أي الراسخين في الإيمان، ولعله عبر المستقبل في الشرط والماضي في الجزاء إشارة إلى أنكم استفتحتم في بدر وجاءكم من الفتح ما رأيتم، فإن كان أعجبكم فألزموه في المستقبل، فإني لا أجيئكم أبداً ما دمتم على حالكم إلا بما جئتكم به يومئذ، والفتح يحتمل أن يكون بمعنى النصر فيكون تهكماً بهم، وأن يكون بمعنى القضاء.
ولما كان سبب ما أحله بالكفار - من الإعراض عن إجابتهم فيما قصدوا من دعائهم ومن خذلانهم في هذه الوقعة وإيجاب مثل ذلك لهم أبداً - هو عصيانهم الرسول وتوليهم عن قبول ما يسمعونه منه من الروح؛ حذر المؤمنين من مثل حالهم بالتمادي في التنازع في الغنيمة أو غيرها فقال: { يا أيها الذين آمنوا } أي ادعوا ذلك { أطيعوا الله } أي الذي له جميع العز والعظمة { ورسوله } تصديقاً لدعواكم الإيمان.
ولما كانت طاعة الرسول هي طاعة الله لأنه إنما يدعوه إليه وإنما خلقه القرآن، وحد الضمير فقال: { ولا تولوا عنه } أي عن الرسول في حال من الأحوال، في أمر من الأوامر من الجهاد وغيره، من الغنائم وغيرها، خف أو ثقل، سهل أو صعب { وأنتم } اي والحال أنكم { تسمعون* } أي لكم سمع لما يقوله، أو وأنتم تصدقونه، لأن ارتكاب شيء من ذلك يكذب دعوى الإيمان وينطبق علىأحوال الكفار، وإلى ذلك إشارة بقوله: { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا } أي بآذاننا { وهم لا يسمعون* } أي لا يستجبون فكأنهم لم يسمعوا، لما انتفت الثمرة عد المثمر عدماً.