التفاسير

< >
عرض

وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ
٧
وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ
٨
وَهُوَ يَخْشَىٰ
٩
فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ
١٠
كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ
١١
فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ
١٢
فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ
١٣
مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ
١٤
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ
١٥
كِرَامٍ بَرَرَةٍ
١٦
-عبس

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما قال سبحانه { إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } [النازعات: 26] وقال بعد { إنما أنت منذر من يخشاها } [النازعات: 45] افتتحت هذه السورة الأخرى بمثال يكشف عن المقصود من حال أهل التذكر والخشية وجميل الاعتناء الرباني بهم وأنهم وإن كانوا في دنياهم ذوي خمول لا يؤبه لهم فهم عنده سبحانه في عداد من اختاره لعبادته وأهله لطاعته وإجابة رسوله صلى الله عليه وسلم وأعلى منزلته لديه "رب أشعث أغبر لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره" ومنهم ابن أم مكتوم الأعمى مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي بسببه نزلت السورة ووردت بطريق العتب وصاة لنبيه صلى الله عليه وسلم وتنبيهاً على أن يعمل نفسه الكريمة على مصابرة أمثال ابن أم مكتوم وأن لا يحتقر وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك، ولكن التحذير من هذا وإن لم يكن وقع يشعر بعظيم الاعتناء بمن حذر، ومنه قوله سبحانه { لئن أشركت ليحبطن عملك } [الزمر: 65] و { لا تدع مع الله إلهاً آخر } [ص: 88] و { لا تمش في الأرض مرحاً } [لقمان: 18] وهو كثير، وبسط هذا الضرب لا يلائم مقصودنا في هذا التعليق، لما دخل عليه صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم سائلاً ومسترشداً وهو صلى الله عليه وسلم يكلم رجلاً من أشراف قريش وقد طمع في إسلامه ورجاء إنقاذه من النار وإنقاذ ذويه وأتباعه، فتمادى على طلبه هذا الرجل لما كان يرجوه ووكل ابن أم مكتوم إلى إيمانه فأغفل - فورية مجاوبته وشق عليه إلحاحه خوفاً من تفلت الآخرة ومضيه على عقبه وهلاكه عتب سبحانه وتعالى عليه فقال: { عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر } [عبس: 1 – 4] وهي منه سبحانه واجبة، وقد تقدم في السورة قبل قول موسى عليه الصلاة والسلام { هل لك إلى أن تزكى } [النازعات: 18] فلم يقدر له بذلك ولا انتفع ببعد صيته في دنياه ولا أغنى عنه ما نال منها وبارت مواد تدبيره وعميت عليه الأنباء إلى أن قال { ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى } [القصص: 38] { وإني لأظنه كاذباً وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل } [غافر: 37] فأنى يزكى؟ ولو سبقت له سعادة لأبصر من حاله عين اللهو وللعب حين مقالته الشنعاء { أم أنا خير من هذا الذي هو مهين } [الزخرف: 52].
ولما سبقت لابن أم مكتوم الحسنى لم يضره عدم الصيت الدنياوي ولا أخل به عماه بل عظّم ربه شأنه لما نزل في حقه
{ وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى } [عبس: 2 – 4] فيا له صيتاً ما أجله بخلاف من قدم ذكره ممن طرد فلم يتزك ولم ينتفع بالذكرى حين قصد بها { إنما أنت منذر من يخشاها } [النازعات: 45] كابن أم مكتوم، ومن نمط ما نزل في ابن أم مكتوم قوله تعالى: { واصبر نفسك مع الذي يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } [الكهف: 28] وقوله: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } [الأنعام: 52] فتبارك ربنا ما أعظم لطفه بعبيده - اللهم لا تؤيسنا من رحمتك ولا تقنطنا من لطفك ولا تقطع بنا عنك بمنك وإحسانك – انتهى.
ولما كان فعله ذلك فعل من يخشى أن يكون عليه في بقائهم على كفرهم ملامة، بين له أنه سالم من ذلك فقال: { وما } أي فعلت ذلك والحال أنه ما { عليك } أي من بأس في { ألا يزكّى * } أصلاً ورأساً ولو بأدنى تزك - بما أشار إليه الإدغام - إن عليك إلا البلاغ، ويجوز أن يكون استفهاماً أي وأي شيء يكون عليك في عدم تزكيه وفيه إشارة إلى أنه يجب الاجتهاد في تزكية التابع الذي عرف منه القبول.
ولما ذكر المستغني، ذكر مقابله فقال: { وأما من جاءك } حال كونه { يسعى * } أي مسرعاً رغبة فيما عندك من الخير المذكر بالله وهو فقير { وهو } أي والحال أنه { يخشى } أي يوجد الخوف من الله تعالى ومن الكفار في أذاهم على الإتيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معاثر الطريق لعماه { فأنت عنه } أي خاصة في ذلك المجلس لكونه في الحاصل { تلهّى * } أي تتشاغل لأجل أولئك الأشراف الذين تريد إسلامهم لعلو بهم الدين تشاغلاً حفيفاً بما أشار إليه حذف التاء، من لهى عنه كرضى - إذا سلى وغفل وترك، وفي التعبير بذلك إشارة إلى أن الاشتغال بأولئك لا فائدة فيه على ما تفهمه تصاريف المادة وإلى أن من يقصد الانسان ويتخطى رقاب الناس إليه له عليك حق عظيم، والآية من الاحتباك: ذكر الغنى أولاً يدل على الفقر ثانياً، وذكر المجيء والخسية ثانياً يدل على ضدهما أولاً، وسر ذلك التحذير مما يدعو إليه الطبع البشري من الميل إلى الأغنياء، ومن الاستهانة بحق الآتي إعظاماً لمطلق إتيانه.
ولما كان العتاب الذي هو من شأن الأحباب ملوحاً بالنهي عن الإعراض عمن وقع العتاب عليه، وكل من كان حاله كحاله والتشاغل عن راغب، صرح به فقال: { كلا } أي لا تفعل ذلك أصلاً فإن الأمر في القضاء والقدر ليس على ما يظن العباد ولا هو جار على الأسباب التي تعرفونها بل هو من وراء علومهم على حكم تدق عن أفكارهم وفهومهم: ثم علل ذلك فقال مؤكداً لإنكارهم ذلك، { إنها } أي القرآن، ولعله أنث الضمير باعتبار ما تلي عليهم في ذلك المجلس من الآيات أو السور { تذكرة } أي تذكرهم تذكيراً عظيماً بما إن تأملوه شاهدوه في أنفسهم وفي الآفاق، ليس فيه شيء إلا وهم يعرفونه لو أقبلوا بكليتهم عليه، فما على المذكر بها غير البلاغ، فمن أقبل عليه فأهلاً وسهلاً، ومن أعرض فبعداً له وسحقاً.
ولما كان سبحانه قد خلق للإنسان عقلاً واختياراً، ويسر أمر القرآن في الحفظ والفهم لمن أقبل عليه، سبب عن ذلك قوله: { فمن شاء } أي ذكره بعد مشيئة الله تعالى كما تقدم تقييده في القرآن غير مرة { ذكره * } أي حفظ القرآن كله وتذكر ما فيه من الوعظ من غير تكرير ولا معالجة تحوج إلى الإعراض عن بعض المقبلين الراغبين، وللإشارة إلى حفظه كله ذكر الضمير.
ولما كان التقدير: حال كون القرآن مثبتاً أو حال كون الذاكر له مثبتاً، قال واصفاً لتذكرة مبيناً لشرفها بتشريف ظرفها وظرف ظرفها { في صحف } أي أشياء يكتب فيها من الورق وغيره { مكرمة * } أي مكررة التكريم ومعظمة في السماء والأرض في كل أمة وكل ملة { مرفوعة } أي عليه المقدار بإعلاء كل أحد لا سيما من له الأمر كله { مطهرة * } أي منزهة عن أيدي أهل السفول وعن قولهم إنها شعر أو سحر ونحو ذلك، وعلق أيضاً بمثبت بالفتح أو الكسر على اختلاف المعنيين - قوله مبيناً شرف ذلك الظرف لذلك الظرف إشارة إلى نهاية الشرف للمظروف: { بأيدي سفرة * } أي كتبة يظهرون الكتابة بما فيها من الأخبار الغريبة والأحكام العلية في كل حال، فإن كان ما تعلق به الجار بالفتح فهو حقيقة في أنهم ملائكة يكتبونه من اللوح المحفوظ، أو يكون جمع سافر إما بمعنى الكتاب أو المسافر أي القطع للمسافة أو السفير الذي هو المصلح لأنهم سفراء بين الله وأنبيائه، وبهم يصلح أمر الدين والدنيا، وإن كان بالكسر فهو مجاز لأن من أقبل على كتابة الذكر يكون مهذباً في الحال أو في المآل في الغالب، وتركيب سفر للكشف { كرام } أي ينطوون على معالي الأخلاق مع أنهم أعزاء على الله { بررة * } أي أتقياء في أعلى مراتب التقوى والكرم وأعزها وأوسعها.