التفاسير

< >
عرض

وَعِنَباً وَقَضْباً
٢٨
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً
٢٩
وَحَدَآئِقَ غُلْباً
٣٠
وَفَاكِهَةً وَأَبّاً
٣١
مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ
٣٢
-عبس

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان الحب قوتاً فبدأ به لأنه الأصل في القوام، عطف عليه ما هو فاكهة وقوت فقال: { وعنباً } هو فاكهة في حال عنبيته وقوت باتخاذه زبيباً ودبساً وخلاً. ولما كان لذلك في بيان عجائب الصنع ليدل على القدرة على كل شيء فيدل على القدرة على البعث فذكر ما إن أخذ من منبته قبل بلوغه فسد، وإن ترك اشتد وصلح للادخار، واتبعه ما إن ترك على أصله فسد، وإن أخذ وعولج - صلح للادخار، أتبعه ما لا يصلح للادخار بوجه فقال: { وقضباً * } وهو الرطب من البقل وغيره، وهو يزيد على الماضيين بأنه فيه ما هو دواء نافع وسم ناقع، وبأنه يقطع مرة بعد أخرى فيخلف، سمي بمصدر قضبه - إذا قطعه بحصد أو قلع.
ولما ذكر ما لا يصلح أن يؤكل إلاّ رطباً من غير تأخير، أتبعه ما لا يفسد بحال لا على أمه ولا بعد القطاف ويصلح بعد القطاف فيؤكل أو يعصر، فيكون له دهن للاستصباح والإدهان والائتدام، وفيه تقوية للعظام والأعصاب ولا يفسده الماء بوجه كما أن العنب يعصر فيكون منه دبس وخل وغيرهما، ومتى خالطه الماء فسد، فقال: { وزيتوناً } يكون فيه مع ما مضى حرافة وغضاضة فيها إصلاح المزاج. ولما ذكر ما لا يفسد وشجره يصبر على البرد، أتبعه ما هو كالعنب يؤكل على أمه ويقطع فيدخر، فهو جامع بين التحلي والتحمض بالخل والتفكه والتقوي والتداوي للسم الناقع والسحر الصارع من عجوة المدينة الشريفة وغير ذلك من ثمرة وشجرة، ولا يصبر شجره على البرد فقال: { ونخلاً * } وكل من هذه الأشجار مخالف للآخر في الشكل والحمل وغير ذلك مع الموافقة في الأرض والسقي.
ولما ذكر هذه الأشياء من الأقوات والفواكه لكثرة منافعها، وكانت البساتين تجمعها وغيرها مع ما لها من بهجة العين وسرور النفس وبسط الخاطر وشرح القلب قال: { وحدائق } جمع حديقة وهي الروضة ذات النخل والشجر، أو كل ما أحاط به البناء وهي تجمع ذلك كله { غلباً * } جمع غلباء - بفتح الغين والمد، وهي الحديقة ذات أشجار كثيرة عظام غلاظ طوال ملتفة الأغصان متكاثرة، مستعار من وصف الرقاب، يقال: غلب فلان - كفرح أي غلظ عنقه، والغلباء أيضاً من القبائل العزيزة الممتنعة، ومن الهضاب المشرفة.
ولما ذكر ما يتفكه ويدخر جمع فقال: { وفاكهة } أي ثمرة رطبة يتفكه بها كالخوخ والعنب والتين والتفاح والكمثرى والبرقوق مما يمكن أن يصلح فيدخر ومما لا يمكن. ولما ذكر فاكهة الناس، ذكر فاكهة بقية الحيوان فقال: { وأبّاً * } أي ومرعىً ونباتاً وعشباً وكلأ ما دام رطباً يقصد، من أب الشيء - إذا أمه.
ولما جمع ما يقتات وما يتفكه، فدل دلالة واضحة على تمام القدرة، ذكر بالنعمة فيه قارعاً بأسلوب الخطاب لتعميم الأفراد بعد سياق العتاب للتصريح بأن الكل عاجزون عن الوفاء بالشكر فكيف إذا انضم إليه الكفر فقال: { متاعاً } وهو منصوب على الحال. ولما ذكر ما يأكله الناس وما يعلف للدواب، وكان السياق هنا لطعام الإنسان، قال مقدماً ضميرهم: { لكم ولأنعامكم * } بخلاف ما في السجدة وقد مضى، والأنعام بها يكون تمام الصلاح للإنسان بما له فيها من النعم بالركوب والأكل والشرب والكسوة والجمال وسائر المنافع، وذكر هذا ذكراً ظاهراً مشيراً إلى المعادن لأن منها ما لا يتم ما مضى إلا به، وهي آلات الزرع والحصد والطبخ والعجن وغير ذلك، والملائكة المدبرة لما صرفها الله فيه من ذلك، فدل ذلك على أن الوجود كله خلق لأجل منافع الإنسان ليشكر لا ليكفر، ودلت القدرة على ذلك قطعاً على القدرة على البعث.