التفاسير

< >
عرض

وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً
٩
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ
١٠
فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً
١١
وَيَصْلَىٰ سَعِيراً
١٢
إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً
١٣
إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ
١٤
بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً
١٥
-الانشقاق

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان هذا دالاً على العفو، أتبعه ما يدل على الإكرام فقال: { وينقلب } أي يرجع من نفسه من غير مزعج برغبة وقبول { إلى أهله } أي الذين أهله الله بهم في الجنة فيكون أعرف بهم وبمنزله الذي أعد له منه بمنزله في الدنيا. ولما كانت السعادة في حصور السرور من غير قيد، بنى للمفعول قوله: { مسروراً * } أي قد أوتي جنة وحريراً، فإنه كان في الدنيا في أهله مشفقاً من العرض على الله مغموماً مضروراً يحاسب نفسه بكرة وعشياً حساباً عسيراً مع ما هو فيه من نكد الأهل وضيق العيش وشرور المخالفين، فذكر هنا الثمرة والمسبب لأنها المقصودة بالذات، وفي الشق الآخر السبب والأصل، وقد استشكلت الصديقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هذه الآية بما "روي عنها في الصحيح بلفظين أحدهما ليس أحد يحاسب إلا هلك والثاني من نوقش الحساب عذب قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت: يا رسول الله! أليس الله يقول { فأما من أوتي كتابه } [الانشقاق: 8] الآية، فقال: صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك العرض" فإن كان اللفظ الأول هو الذي سمعته فالإشكال فيه واضح، وذلك أنه يرجع إلى كلية موجبة هي "كل من حوسب هلك" والآية مرجع إلى جزئية سالبة وهي "بعض من يحاسب لا يهلك" وهو نقيض، وحينئذ يكون اللفظ الثاني من تصرف الرواة، وإن كان الثاني هو الذي سمعته فطريق تقدير الإشكال فيه أن يقال: المناقشة في اللغة من الاستقصاء وهو بلوغ الغاية، وذلك في الحساب بذكر الجليل والحقير والمجازاة عليه، فرجع الأمر أيضاً إلى كلية موجبة هي "كل من حوسب بجميع أعماله عذب" وذلك شامل لكل حساب سواء كان يسيراً أو لا، لأن الأعم يشمل جميع أخصّياته، والآية مثبتة أن من أعطي كتابه بيمينه يحاسب عليه ولا يهلك، والصديقة رضي الله عنها عالمة بأن الكتاب يثبت فيه جميع الأعمال من قوله تعالى: { لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها } [الكهف: 49] ومن حديث الحافظين وغير ذلك، فرجع الأمر إلى أن بعض من يحاسب بجميع أعماله لا يهلك، وحينئذ فالظاهر التعارض فسألت، فأقرها صلى الله عليه وسلم على الإشكال وأجابها بما حاصله أن المراد بالحساب في الحديث مدلوله المطابقي، وهو ذكر الأعمال كلها - والمقابلة على كل منها، وذلك هو معنى المناقشة، فمعنى "من نوقش الحساب" من حوسب حساباً حقيقياً بذكر جميع أعماله والمقابلة على كل منها، وأن المراد بالحساب في الآية جزء المعنى المطابقي وهو ذكر الأعمال فقط من غير مقابلة، وذلك بدلالة التضمن مجازاً مرسلاً لأنه إطلاق اسم الكل على الجزء، ولأجل هذا كانت الصديقة رضي الله تعالى عنها تقول بعد هذا في تفسير الآية: يقرر بذنوبه ثم يتجاوز عنها - كما نقله عنها أبو حيان، وعلى ذلك دل قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما: "إن الله تعالى يدني المؤمن يوم القيامة فيضع كنفه عليه ويستره ثم يقول له: أتعرف ذنب كذا - حتى يذكره بذنوبه كلها ويرى في نفسه أنه قد هلك، قال الرب سبحانه: سترتها عليك في الدنيا، وأنا إغفرها لك اليوم" ولفظ "كنفه" يدل على ذلك فإن كنف الطائر جناحه، وهو إذا وقع فرخه في كنفه عامله بغاية اللطف، فالله تعالى أرحم وألطف { وأما من أوتي } أي بغاية السهولة وإن أبى هو ذلك { كتابه } أي صحيفة حسابه { وراء ظهره * } أي في شماله إيتاء مستغرقاً لجميع جهة الوراء التي هي علم السوء لأنه كان يعمل ما لم يأذن به الله، فكأنه عمل من ورائه مما يظن أنه يخفى عليه سبحانه، فكان حقيقاً بأن تعل يمينه إلى عنقه، وتكون شماله إلى وراء ظهره، ويوضع كتابه فيها، وهذا احتباك: ذكر اليمين أولاً يدل على الشمال ثانياً، وذكر الوراء ثانياً يدل على الأمام أولاً، وسر ذلك أنه ذكر دليل المودة والرفق بالمصافحة ونحوها في السعيد، ودليل الغدر والاغتيال في الشقي { فسوف يدعوا } أي بوعد لا محالة في وقوعه أبداً { ثبوراً * } أي حسرة وندماً بنحو قوله: واثبوراه، وهو الهلاك الجامع لأنواع المكاره كلها لأن أعماله في الدنيا كانت أعمال الهالكين.
ولما كان ذلك لا يكون إلا لبلاء كبير، أتبعه ما يمكن أن يكون علة له فقال: { ويصلى سعيراً * } أي ويغمس في النار التي هي في غاية الاتقاد ويقاسي حرها وهي عاطفة عليه ومحطية به لأنه كان تابعاً لشهواته التي هي محفوفة بها فأوصلته إليها وأحاطت به.
ولما ذكر هذا العذاب الذي لا يطاق، أتبعه سببه ترهيباً منه واستعطافاً إلى التوبة وتحذيراً من السرور في دار الحزن، فقال مؤكداً تنبيهاً على أنه لا ينبغي أن يصدق أن عاقلاً يثبت له سرور في الدنيا: { إنه كان } أي بما هو له كالجبلة والطبع { في أهله } أي في دار العمل { مسروراً * } أي ثابتاً له السرور بطراً بالمال والجاه فرحاً به مخلداً إليه مترفاً مع الفراغ والفرار عن ذكر حساب الآخرة كما قال في التي قبلها
{ وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين } [المطففين: 31]، لا يحزن أحدهم لذنب عمله ولا لقبيح ارتكبه، بل يسر بكونه يأتي له ذلك فهو يحاسب في الآخرة حساباً عسيراً، وينقلب إلى أعدائه مغموماً كسيراً، وقد بان أن الكلام من الاحتباك: ذكر الحساب اليسير الذي هو الثمرة والمسبب أولاً يدل على حذف ضده ثانياً، وذكر السرور في الأهل الذي هو السبب في الثاني يدل على حذف ضده وهو سبب السعادة وهو الغم ومحاسبة النفس في الأول، فهو احتباك في احتباك، ثم علل ثبات سروره فقال مؤكداً تنبيهاً أيضاً على أنه لا يصدق أن أحداً ينكر البعث مع ما له من الدلائل التي تفوت الحصر: { إنه ظن } لضعف نظره { أن } أي أنه { لن يحور * } أي يرجع إلى ربه أو ينقص أو يهلك { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدهر } [الجاثية: 24] فلهذا كان يعمل عمل من لا يخاف عاقبة { بلى } ليرجعن صاغراً ناقصاً هالكاً، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لأجل من ينكر: { إن ربه } أي الذي ابتدأ إنشاءه ورباه { كان } أزلاً وأبداً { به } أي هذا الشقي في إعادته كما كان في ابتدائه وفي جميع أعماله وأحواله التي لا يجوز في عدل عادل ترك الحساب عليها { بصيراً * } أي ناظراً له وعالماً به أبلغ نظر وأكمل علم، فتركه مهملاً مع العلم بأعماله مناف للحكمة والعدل والملك، فهو شيء لا يمكن في العقل بوجه.