التفاسير

< >
عرض

وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ
٩
وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ
١٠
ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ
١١
فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ
١٢
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ
١٣
إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ
١٤
فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ
١٥
وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ
١٦
-الفجر

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما بدأ بهؤلاء لأن أمرهم كان أعجب، وقصتهم أنزه وأغرب، ثنى بأقرب الأمم إليهم زماناً وأشبههم بهم شأناً لأنهم أترفوا بما حبوا به من جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم، فجعلوا موضع ما لزمهم من الشكر الكفر، واستحبوا العمى على الهدى، مع ما في آيتهم، وهي الناقة، من عظيم الدلالة على القدرة فقال: { وثمود الذين جابوا } أي نقبوا وقطعوا قطعاً حقيقاً كأنه عندهم كالواجب { الصخر بالواد * } أي وادي الحجر أو وادي القرى، فجعلوا بيوتاً منقورة في الجبال فعل من يغتال الدهر ويفني الزمان، قال أبو حيان: قيل أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة.
ولما ذكر القبيلتين من العرب، ذكر بعض من جاورهم من طغاة العجم لما في قصتهم من العتو والجبروت مع ما حوته من الغرائب وخوارق العجائب لا سيما في القدرة على البعث بقلب العصا حية وإعادتها جماداً مع التكرر، وبإيجاد الضفادع والقمل من كثبان الأرض وغير ذلك فقال: { وفرعون } أي وفعل بفرعون { ذي الأوتاد * } أي الذي ثبّت ملكه تثبيت من يظن أنه لا يزول بالعساكر والجنود وغيرهم من كل ما يظن أنه يشد أمره من الجنات والعيون والزروع والمقامات الكريمة، فصارت له اليد المبسوطة في الملك.
ولما كان المراد بفرعون هو وجنوده لآن الرأس يكنى به عن البدن، لأنه جماعة وبه قوامه، وصفه بوصف يجمع قومه وجميع من ذكر هنا فقال: { الذين } أي فرعون وجنوده وكل من ذكر هنا من الكفرة من عاد وثمود وأتباعهم { طغوا } أي تجاوزوا الحدود { في البلاد * } أي التي ملكوها بالفعل وغيرها بالقوة { فأكثروا } عقب طغيانهم وبسببه { فيها الفساد * } بما فعلوا من الكفر والظلم مما صار سنة لمن سمع به.
ولما كان ذلك موجباً للعذاب، سبب عنه قوله: { فصب } أي أنزل إنزالاً هو في غاية القوة { عليهم } أي في الدنيا { ربك } أي المحسن إليك المدبر لأمرك الذي جعل ما مضى من أخبار الأمم وآثار الفرق موطئاً لهم { سوط عذاب * } أي جعل عذابهم من الإغراق والرجف وغيرهما في وقته وتمكنه وعلوه وإحاطته كالمصبوب في شدة ضربه ولصوقه بالمضروب وإسراعه إليه والتفافه به كالسوط وفي كونه منوّعاً إلى أنواع متشابكة، وأصله الخلط، وإنما سمي هذا الجلد المضفور الذي يضرب به لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض، ولأنه يخلط اللحم والدم، وقيل: شبه بالسوط ما أحل بهم في الدنيا إشعاراً بالترديد والتكرير إلى أن يهلك المعذب به وإيذاناً بأنه بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى السيف، هذا سوط الدنيا وسيف الآخرة أشد وأحد وأمضى، ثم علل أخذه لكل ظالم وانتقامه من كل مفسد بأنه رقيب، فقال ممثلاً أن العصاة لا يفوتونه مؤكداً تنبيهاً على أن أعمال من ينكر ذلك أو لا يخطر بباله: { إن ربك } أي مولاك المدبر لأمر نبوتك { لبالمرصاد * } أي لا يفوته شيء، بل هو قادر ومطلع على كل شيء اطلاع من يريده بالإقامة في مكان الرصد وزمانه مع غاية الحفظ والرعي وهو قادر على ما يريد.
ولما ذكر سبحانه أن عادة هؤلاء الفرق كانت الطغيان، وذكر أن عادة الرب سبحانه فيمن تولى وكفر أنه يعذبه كما هدد به آخر تلك، ودل على ذلك بما شوهد في الأمم، وعلل ذلك بأنه لا يغفل، ذكر عادة الإنسان من حيث هو من غير تقييد بهؤلاء الفرق عن الابتلاء في حالي السراء والضراء، فقال مشيراً إلى جواب ما كانت الكفار تقوله من أنهم آثر عند الله من المسلمين لا يساعد عليهم في الدنيا وتقلل الصحابة رضي الله عنهم من الدنيا مسبباً عما مضى عطفاً على ما تقديره: هذه كانت عادة هؤلاء الأمم وعادة الله فيهم: { فأما الإنسان } أي الذي أودع الحجر ليعقل هذه الأقسام وما يراد منه من اعتقاد المقسم عليه بها وجبل على النسيان والأنس بنفسه والمحبة لها والرضى عنها.
ولما كان المقصود التعريف بحاله عند الابتداء، قدم الظرف الدال على ذلك على الخبر فقال: { إذا } وأكد الأمر بالنافي فقال { ما ابتلاه } أي عامله معاملة المختبر بأن خالطه بما أراد مخالطة تميله وتحيله { ربه } أي الذي أبدعه وأحسن إليه بما يحفظ وجوده ليظهر شكره أو كفره { فأكرمه } أي بأن جعله عزيزاً بين الناس وأعطاه ما يكرمونه به من الجاه والمال { ونعمه * } أي بأن جعله متلذذاً مترفاً بما أعطاه غير تعبان - بسببه { فيقول } سروراً بذلك وافتخاراً: { ربي } أي الموجد لي والمدبر لأمري { أكرمن * } أي فيظن أن ذلك عن استحقاق فيرتفع به { وأما } هو { إذا } وأكد على نمط الأول فقال: { ما ابتلاه } أي ربه ليظهر صبره أو جزعه.
ولما كان قوله في الأول "فأكرمه ونعمه" كناية عن "فوسع عليه" قابله هنا بقوله: { فقدر } أي ضيق تضييق من يعمل الأمر بحساب وتقدير { عليه رزقه } فهو كناية عن الضيق كما أن العطاء بغير حساب كناية عن السعة، فجعله بمقدار ضرورته الذي لا يعيش عادة بدونه، ولم يجعله فيه فضلاً عن ذلك ولم يقل "فأهانه" موضع "قدر عليه" تعليماً للأدب معه سبحانه وتعالى وصوناً لأهل الله عن هذه العبارة لأن أكثرهم مضيق عليه في دنياه، ولأن ترك الإكرام لا ينحصر في كونه إهانة { فيقول } أي الإنسان بسبب الضيق: { ربي } أي المربي لي { أهانن * } فيهتم لذلك ويضيق به ذرعاً، ويكون ذلك أكبر همه.