التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٢٨
قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
٢٩
-التوبة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما تقدم في الأمر والنواهي وبيان الحكم المرغبة والمرهبة ما لم يبق لمن عنده أدنى تمسك بالدين شيئاً من الالتفات إلى المفسدين، بين أن العلة في مدافعتهم وشديد مقاطعتهم أنهم نجس وأن المواضع - التي ظهرت فيها أنوار عظمته وجلالته وأشرقت عليها شموس نبوته ورسالته، ولمعت فيها بروق كبره وجالت صوارم نهية وأمره - مواضع القدس ومواطن الأنس، من دنا إليها من غير أهلها احترق بنارها، وبهرت بصره أشعة أنوارها، فقال مستخلصاً مما تقدم ومستنتجاً: { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بألسنتهم بالإيمان وهم ممن يستقبح الكذب { إنما المشركون } أي العريقون في الشرك بدليل استمرارهم عليه.
ولما كانوا متصفين به، وكانوا لا يغتسلون - ولا يغسلون - ثيابهم من النجاسة، بولغ في وصفهم بها بأن جعلوا عينها فقال: { نجس } أي وأنتم تدعون أنكم أبعد الناس عن النجس حساً ومعنى، فيجب أن يقذروا وأن يبعدوا ويحذروا كما يفعل بالشيء النجس لما اشتملوا عليه من خلال الشر واتصفوا به من خصال السوء، وأما أبدانهم فاتفق الفقهاء على طهارتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من أوانيهم ولم ينه عن مؤاكلتهم ولا أمر بالغسل منها ولو كانت نجسة ما طهرها الإسلام. ولما تسبب عن ذلك إبعادهم، قال: { فلا يقربوا } أي المشركون، وهذا نهي للمسلمين عن تمكينهم من ذلك، عبر عنه بنهيهم مبالغة فيه { المسجد الحرام } أي الذي أخرجوكم منه وأنتم أطهر الناس، واستغرق الزمان فأسقط الجار ونبههم على حسن الزمان واتساع الخير فيه بالتعبير بالعام فقال: { بعد عامهم } وحقق الأمر وأزال اللبس بقوله: { هذا } وهو آخر سنة تسع سنة الوفود مرجعه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، فعبر بقربانه لا بإتيانه بعد التقديم إليهم بأن لا يقبل من مشرك إلا الإسلام أو القتل إشارة إلى إخراج المشركين من جزيرة العرب وانها لا يجتمع بها دينان لأنها كلها محل النبوة العربية وموطن الأسرار الإلهية، فمن كان فيها - ولو في أقصاها - فقد قارب جميع ما فيها، وتكون حينئذ بالنسبة إلى الحرم كأفنية الدور ورحاب المساجد؛ وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر رضي الله عنه أميراً على الحج بعد رجوعه من تبوك ثم أردفه بعلي رضي الله عنه فأمره أن يؤذن ببراءة، قال أبو هريرة: فأذن معنا عليّ يوم النحر في أهل منى ببراءة وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. وهذه سنة قديمة فقد أمر الله تعالى بني إسرائيل في غير موضع من التوارة بأن لا يبقوا في جميع بلاد بيت المقدس أحداً من المشركين بخلاف غيرها من البلاد التي يفتحها الله عليهم، منها ما قال المترجم في أواخر السفر الخامس: وإذا تقدمتم إلى قرية أو مدينة لتقاتلوا أهلها ادعوهم إلى الصلح، فإن قبلوه وفتحوا لكم من كان فيها من الرجال يكونوا عبيداً لكم يؤدوا إليكم الخراج، وإن لم يقبلوا الصلح وحاربوكم فحاربوهم وضيقوا عليهم فإن الله ربكم يدفعها إليكم وتظفرون بمن فيها، فإذا ظفرتم بمن فيها فاقتلوا الذكور كلهم بالسيف، كذلك اصنعوا بجميع القرى البعيدة النائية التي ليست من قرى هذه الشعوب فأما قرى هذه الشعوب التي يعطيكم الله ميراثاً فلا تبقوا من أهلها احداً ولكن اقتلوهم قتلاً كالذي أمركم الله ربكم لئلا يعلموكم النجاسة التي يعلمونها لآلهتهم،ومثل ذلك كثير فيها، وقد مضى بعده فيما ذكرته عن التوارة. والله الموفق، وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام: أحدها الحرم، فلا يجوز للكافر أن يدخله بحال لظاهر هذه الآية، الثاني الحجاز وما في حكمه وهو جزيرة العرب، فيدخله الكافر بالإذن ولا يقيم أكثر من مقام السفر ثلاثة أيام لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وهي من أقصى عدن أبين، وهي في الجنوب إلى أطراف الشام وهي في الشمال طولاً، ومن جدة وهي أقصى الجزيرة غرباً على شاطئ بحر الهند إلى ريف العراق وهو في المشرق عرضاً، والثالث سائر بلاد الإسلام يجوز للكافر الإقامة فيها بذمة وأمان ما شاء، ولكن لا يدخل المساجد إلا بإذن مسلم. ذكر ذلك البغوي، قال ابن الفرات في تاريخه عند غزو بخت نصر لبني إسرائيل ولأرض العرب: إنما سميت بلاع العرب جزيرة لإحاطة البحار والأنهار بها، فصارت مثل الجزيرة من جزائر البحر، وذلك أن الفرات أقبل من بلاد الروم وظهر من ناحية قنسرين ثم انحط على الجزيرة وسواد العراق حتى وقع في البحر من ناحية البصرة والأبلة وامتد البحر من ذلك الموضع مطيفاً ببلاد العرب، فأتى منه عنق على كاظمة وتعدى إلى القطيف وهجر وعمان والشجر، ومال منه عنق إلى حضرموت وناحية أبهر وعدن، واستطال ذلك العنق فطعن في تهامة اليمن ومضى إلى ساحل جدة، وأقبل النيل في غربي هذا العنق من أعلى بلاد السودان مستطيلاً معارضاً للبحر معه حتى وقع في بحر مصر والشام، ثم أقبل ذلك البحر من مصر حتى بلغ بلاد فلسطين فمر بعسقلان وسواحلها، واتى على بيروت ونفذ إلى سواحل حمص وقنسرين حتى خالط الناحية التي أقبل منها الفرات منحطاًعلى أطراف قنسرين والجزيرة إلى سواد العراق، وأقبل جبل السراة من قعرة اليمن حتى بلغ أطراف الشام فمسته العرب حجازاً لأنه حجز بين الغور ونجد فصار ما خلف ذلك الجبل في غربيه الغور وهو تهامة، وما دونه في شرقيه نجداً. انتهى.
ولما كان ما والاها من أرض الشام ونحوها كله انهاراً أو جداول، جعل كأنه بحر لأنه في حكم شاطئه، ولما كان قوامهم بالمتاجر، وكان قوام المتاجر باجتماعهم في أسواقهم، وكان نفيهم من تلك الأراضي مظنة لخوف انقطاع المتاجر وانعدام الأرباح المفضي إلى الحاجة وكان قد أمر بنفيهم رعاية لأمر الدين، وكان سبحانه عالماً بأن ذلك يشق على النفوس لما ذكر من العلة ولا سيما وقد قال بعضهم لما قرأ علي رضي الله عنه آيات البراءة على اهل الموسم: يا أهل مكة! ستعلمون ما تلقونه من الشدة بانقطاع السبيل وبُعد الحمولات، وعد سبحانه - وهو الواسع العليم - بما يغني عن ذلك، لأن من ترك الدنيا لأجل الدين أوصله سبحانه إلى مطلوبه من الدنيا مع ما سعد به من أمر الدين "من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه" فقال: { وإن خفتم } أي بسبب منعهم من قربان المواطن الإلهية { عيلة } أي فقراً وحاجة { فسوف يغنيكم الله } أي هو ذو الجلال والإكرام { من فضله } وهو ذو الفضل والطول والقوة والحول.
ولما كان سبحانه الملك الغني القادر القوي الذي لا يجب لأحد عليه شيء وتجب طاعته على كل شيء، نبه على ذلك بقوله: { إن شاء } ولما كان ذلك عندهم مستبعداً، علل تقريباً بقوله: { إن الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { عليم } أي بوجوه المصالح { حكيم* } أي في تدبير استجلابها وتقدير إدرارها ولقد صدق سبحانه ومن أصدق منه قيلاً فإنه أغناهم - بالمغانم التي انتثلها بأيديهم بعد نحو ثلاث سنين من إنزالها من كنوز كسرى وقيصر - غنى لم يطرق أوهامهم قط، ثم جعل ذلك سبباً لاختلاط بعض الطوائف من جميع الناس ببعض لصيرورتهم إخواناً في الدين الذي كان سبباً لأن يجتمع في سوق منى وغيره في أيام الحج كل عام من المتاجر مع الغرب والعجم ما لا يكون مثله في بقعة من الأرض، والعيلة: الفاقة والافتقار، ومادتها بهذا الترتيب تدور على الحاجة وانسداد وجوه الحلية وقد تقدم أول النساء انها - لا بقيد ترتيب - تدور تقاليبها الثمانية على الارتفاع ويلزمه الزيادة والميل، ومنه تأتي الحاجة، وبرهن على ذلك في جميع الجزئيات.
ولما كان ذلك موضع تعجب يكون سبباً لأن يقال: من أين يكون ذلك الغنى؟ أجاب بقوله: { قاتلوا } أي أهل الأموال والغنى { الذين لا يؤمنون بالله } أي الذي له جميع صفات الكمال إيماناً هو على ما أخبرت به عنه رسله، ولو آمنوا هذا الإيمان ما كذبوا رسولاً من الرسل، وأيضاً فالنصارى مثلثة وبعض اليهود مثنية { ولا باليوم الآخر } أي كذلك، وأقل ذلك أنهم لا يقولون بحشر الأجساد { ولا يحرمون ما حرم الله } أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله { ورسوله } أي من الشرك وأكل الأموال بالباطل وغير ذلك وتبديل التوراة والإنجيل { ولا يدينون } أي يفعلون ويقيمون، اشتق من الدين فعلاً ثم أضافه إلى صفته إغراقاً في اتخاذه بذلك الوصف فقال: { دين الحق } أي الذي أخذت عليهم رسلهم العهود والمواثيق باتباعه، ثم بين الموصول مع صلته فقال: { من الذين } ودل على استهانته سبحانه بهم وبراءته منهم بأن بني للمفعول قوله: { أوتوا الكتاب } أي من اليهود والنصاري ومن ألحق بهم { حتى يعطوا الجزية } أي وهي ما قرر عليهم في نظر سكناهم في بلاد الإسلام آمنين، فعله من جزى يجزي. إذا قضى ما عليه { عن يد } أي قاهرة إن كانت يد الآخذ او مقهورة إن كانت يد المعطي، من قولهم: فلان أعطى بيده { وهم صاغرون* } ففي ذلك غنى لا يشبه ما كنتم فيه من قتال بعضكم لبعض لتغنم ما في يده من ذلك المال الحقير ولا ما كنتم تعدونه غنى من المتاجر التي لا يبلغ أكبرها واصغرها ما أرشدناكم إليه مع ما في ذلك العز الممكن من الإصلاح والطاعة وسترون، وعبر باليد عن السطوة التي ينشأ عنها الذل والقهر لأنها الآلة الباطشة، فالمعنى عن يد قاهرة لهم، أي عن قهر منكم لهم وسطوة بأفعالهم التي أصغرتهم عظمتها وأذلتهم شدتها، قال أبو عبيدة:يقال لكل من أعطى شيئاً كرهاً عن غير طيب نفس، أعطاه عن يد. انتهى.وعبر بـ"عن" التي هي للمجاوزة لأن الإعطاء لا يكون إلا بعد البطش المذل، هذا إذا أريد باليد يد الآخد، ويمكن أن يراد بها يد المعطي، وتكون كناية عن النفس لأن مقصود الجزية المال، واليد أعظم أسبابه، فالمعنى حتى يعطي كل واحد منهم الجزية عن نفسه.