التفاسير

< >
عرض

وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ
٣٠
ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٣١
يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ
٣٢
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ
٣٣
-التوبة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان المراد التعميمم أتى بها نكرة لتفيد ذلك، ويؤيد هذا ما نقل العلماء عن الرواة لفتوح البلاد منهم الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي، قال في كتابه الاكتفاء في وقعة جلولاء من بلاد فارس: قالوا: قال بعضهم: فكان الفلاحون للطرق والجسور والأسواق والحرث والدلالة مع الجزي عن أيديهم على قدر طاقتهم، وكانت الدهاقين للجزية عن أيديهم والعمارة، وإنما أخذوا الجزية من المجوس لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر وأخذها منهم لأنهم أهل كتاب في الأصل، قال الشافعي في باب المجمل والمفسر من كتاب اختلاف الحديث: والمجوس أهل كتاب غير التوراة والإنجيل وقد نسوا كتابهم وبدلوه، فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذ الجزية منهم؛ أخبرنا سفيان عن أبي سعد سعيد بن مرزبان عن نصر بن عاصم قال: قال فروة بن نوفل الأشجعي: علام تؤخذ الجزية من المجوس وليسوا بأهل كتاب؟ فقام إليه المستورد فأخذ بلببه فقال: ياعدو الله! تطعن على أبي بكر وعلى عمر وعلي أمير المؤمنين - يعني علياً - وقد أخذوا منهم الجزية، فذهب به إلى القصر فخرج علي رضي الله عنه عليهما فقال: البدا! البدا! فجلسا في ظل القصر فقال علي: أنا أعلم الناس بالمجوس، كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه، وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته، فلما صحا جاؤوا يقيمون عليه الحد فامتنع عليهم فدعا أهل مملكته فقال: تعلمون ديناً خيراً من دين آدم وقد كان آدم ينكح بنيه من بناته، فأنا على دين آدم، فبايعوه وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم فأصبحوا وقد أسري على كتابهم فرفع من بين أظهرهم وذهب العلم الذي في صدورهم، وهم أهل كتاب وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما منهم الجزية. ولما أمر بقتالهم ووصفهم بما هو السبب الباعث على ذلك، عطف عليه بعض أقوالهم المبيحة لقتالهم الموجبة لنكالهم فقال: { وقالت } أي قاتلوا أهل الكتاب لأنهم كفروا بما وصفناهم به وقالت { اليهود } منهم كذباً وبهتاناً { عزير } تنوينُ عاصم والكسائي له موضحٌ لكونه مبتدأ، والباقون منعوه نظراً إلى عجمته مع العلمية وليس فيه تصغير، والخبر في القراءة قولهم: { ابن الله } أي الذي له العلو المطلق فليس كمثله شيء، وعزير هذا هو المسمى عندهم في سفر الأنبياء ملاخيا، ويسمى أيضاً العازر وهو الأصل والعزير تعريبه، وأما الذي جمع لهم هذه التوراة التي بين أيديهم فقال السمؤال بن يحيى المغربي الذي كان يهودياً فأسلم: إنه شخص آخر اسمه عزرا، وإنه ليس بنبي. ذكر ذلك في كتابه غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود، وهو كتاب حسن جداً، وكان السموأل هذا مع تمكنه من المعرفة بشريعة اليهود وأخبارهم متمكناً من علوم الهندسة وغيرها، وكان فصيحاً بليغاً وكان حسن الإسلام يضرب المثل بعقله، ورأيت اليهود في غاية النكاية منه، وأراني بعضهم رسالة إليه لبعض أحبارهم يسفه فيها رأيه في إسلامه ويشبه عليه بأشياء خطابيه وشعرية، فأجابه بجواب بديع افتتحه بقوله تعالى: { سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } } [البقرة: 142] ثم رد كلامه أحسن رد ثم قال له ما حاصله: دع عنك مثل هذه الخرافات، وأجب عن الأمور التي ألزمتكم بها في كتاب غاية المقصود، فما أحار جواباً، ثم القائل لهذا القول منهم روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم أربعة، وقيل: قائله واحد وأسند إلى الكل كما يقال: فلان يركب الخيول وقد لا يكون له إلا فرس واحد، وهو كقوله تعالى { الذين قال لهم الناس } [آل عمران: 173] وقيل: كان فاشياً فيهم فلما عابهم الله به تركوه وهم الآن ينكرونه، والله تعالى أصدق حديثاً { وقالت النصارى } أي منهم إفكاً وعدواناً { المسيح } وأخبروا عنه بقولهم: { ابن الله } أي مع أن له الغنى المطلق والكمال الأعظم، والمسيح هذا هو ابن الله مريم بنت عمران؛ ثم استأنف قوله مترجماً قولي فريقيهم: { ذلك } أي القول البعيد من العقول المكذب للنقول { قولهم بأفواههم } أي حقيقة لم يحتشموا من قوله مع سخافته، وهو مع ذلك قول لا تجاوز حقيقته الأفواه إلى العقول لأنه لا يتصوره عاقل، بل هو قول مهمل كأصوات الحيوانات العجم لا يتحقق له المعنى؛ قال: ومعناه الحال أن قائله لا عقل له، ليس له معنى وراء ذلك، ولبعده عن أن يكون مقصوداً لعاقل عبر فيه بالأفواه التي هي أبعد من الألسنة إلى القلوب.
ولما كان كأنه قيل: فما لهم إذا كان هذا حالهم قالوه؟ قال ما حاصلة: إنهم قوم مطبوعون على التشبه بمن يفعل المفاسد كما أنهم تشبهوا بعبدة الأوثان، فعبدوها غير مرة والأنبياء بين أظهرهم يدعونهم إلى الله وكتابهم ينادي بمثل ذلك وينذرهم أشد الإنذار { يضاهئون } أي حال كونهم يشابهون بقولهم هذا { قول الذين كفروا } أي بمثله وهو العرب حيث قالوا: الملائكة بنات الله، كما أنهم لما رأوا الذين يعكفون على أصنام لهم قالوا: { يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة }.
ولما كان لا يمتنع أن يكون الذين شابهوهم إنما كانوا بعدهم أو في زمانهم من قبل أن يبين فساد قولهم، نفى ذلك بقوله مشيراً بحرف الجر إلى أن كفرهم لم يستغرق زمن القبل: { من قبل } أي من قبل أن يحدث منهم هذا القول، وهذا دليل على أن العرب غيروا دين إسماعيل عليه السلام، اجترؤوا على مثل هذا القول قبل إيقاع بخت نصر باليهود أو في حدوده، وليس ذلك ببعيد مع طول الزمان وإغواء الشيطان، فقد كان بين زمان إبراهيم وعزير عليهما السلام نحو ألف وخمسمائة سنة - هذا على ما ذكره بعض علماء أهل الكتاب عن كتبهم وأيده ما ذكره المسعودي من مروج الذهب في تاريخ ملوك بابل من نمرود إلى بخت نصر: وذكر بعض المؤرخين أن بين الزمنين زيادة على ألفي سنة على أنهم قد نقلوا ما هو صريح في كفر العرب في ذلك الزمان فرووا عن هشام بن الكلبي أنه قال: كان بدء نزول العرب إلى أرض العراق أن الله عز وجل اوحى إلى برخيا من ولد يهودا أن ائت بخت نصر فمره أن يغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ويطأ بلادهم بالجنود فيقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم وأعلمه بكفرهم بي واتخاذهم الآلهة دوني وتكذيبهم أنبيائي ورسلي، وعن غير ابن الكلبي أنه نظم ما بين أبلة والايلة خيلاً ورجالاً ثم دخلوا على العرب فاستعرضوا كل ذي روح قدروا عليه، وأوصى الله برخيا وإرميا بمعد بن عدنان الذي من ولده محمد المختوم به النبوة، وكان ذكر مشابهتهم لأهل الشرك تحقيراً لشأنهم تجرئة على الإقدام عليهم إذ جعلهم مشابهين لمن دربوا قتالهم وضربوا عليهم فأذلوهم بعد أن كانوا في عزة لا يخشون زوالها، وعزائم شديدة لا يخافون انحلالها، كل ذلك بطاعة الله في قتالهم وطلب مرضاته بنزالهم لأنه عليهم، ومن كان عليه لم يفلح، وإلى مثل ذلك إشارة بقوله في حق هؤلاء: { قاتلهم الله } أي أهلكهم الملك الأعظم، لأن من قاتله لم ينج منه، وقيل: لعنهم؛ روي عن ابن عباس قال: وكل شيء في القرآن مثله فهو لعن { أنى يؤفكون* } أي كيف ومن أين يصرفون عن الحق مع قيام الأدلة القاطعة عليه، ثم زادهم جرأة عليهم بالإشارة إلى ضعف مستندهم حيث كان مخلوقاً مثلهم بقوله: { اتخذوا } أي كلفوا أنفسهم العدول عن الله القادر على كل شيء وأخذوا { أحبارهم } أي من علماء اليهود، والحبر في الأصل العالم من أيّ طائفة كان { ورهبانهم } أي من زهاد النصارى، والراهب في الأصل من تمكنت الرهبة في قلبه فظهرت آثارها على وجهه ولباسه، فاختص في العرف بعلماء النصارى أصحاب الصوامع { أرباباً } أي آلهة لكونهم يفعلون ما يختص به الرب من تحريم ما حرموا وتحليل ما حللوا؛ وأشار إلى سفول أمرهم بقوله: { من دون الله } أي الحائز لجميع صفات الجلال، فكانوا يعولون عليهم ويسندون أمرهم إليهم حتى أن كانوا ليتبعونهم في الحلال والحرام { والمسيح } أي المبارك الذي هو أهل لأن المسيح بدهن القدس وأن يمسح غيره { ابن مريم } أي اتخذوه كذلك لكونهم جعلوه ابناً فأهلوه للعبادة بذلك مع كونه ابن امرأة، فهو لا يصلح للإلهية بوجه لمشاركته للآدميين في الحمل والولادة والتربية والأكل والشرب وغير ذلك من أحوال البشر الموجبة للحاجة المنافية للإلهية، ومع تصريحه لهم بأنه عبد الله ورسوله، فتطابق العقل والنقل على أنه ليس بإله.
ولما قبح عليهم ما اختاروه لأنفسهم، قبحه عليهم من جهة مخالفته لأمره تعالى فقال: { وما } أي فعلوا ذلك والحال أنهم ما { أمروا } أي من كل من له الأمر من أدلة العقل والنقل { إلا ليعبدوا } أي ليطيعوا على وجه التعبد { إلهاً واحداً } أي لا يقبل القسمة بوجه لا بالذات ولا بالمماثلة، وذلك معنى وصفه بأنه { لا إله إلا هو } أي لا يصلح أن يكون معه إله آخر، فلما تعين ذلك في الله وكانت رتبته زائدة أبعد عما أشركوا به، نزهه بقوله: { سبحانه } أي بعدت رتبته وعلت { عما يشركون* } في كونه معبوداً أو مشروعاً؛ ذكر أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي القاضي في تفسيره وغيره عن عدي ابن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: اقطعه، فقطعته ثم أتيته وهو يقرأ سورة براءة { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } قلت: يا رسول! إنا لم نكن نعبدهم! قال: أجل. أليس كانوا يحلون لكم ما حرم الله فتستحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه؟ قلت: بلى، قال: تلك عبادتهم.
ولما وهى سبحانه أمرهم من جهة استنادهم، زاد توهية من جهة مرادهم بالإعلام بأنهم بقتالهم لأهل الطاعة إنما يقاتلون الله وأنه لا ينفذ غرضهم بل يريد غير ما يريدون، ومن المقرر أنه لا يكون إلا ما يريد، فقال مستأنفاً أو معللاً لما مضى من أقوالهم وأفعالهم: { يريدون أن يطفئوا } أي بما مضى ذكره من أحوالهم { نور الله } أي دين الملك الأعلى الذي له الإحاطة العظمى، وشرعه الذي شرعه لعباده على ألسنة الأنبياء والرسل، كل ذلك ليتمكنوا من العمل بالأغراض والأهوية، فإن اتباع الرسل حاسم للشهوات، وهم أبعد الناس عن ذلك.
ولما حقر شأنهم، هدمه بالكلية بقوله: { بأفواههم } أي بقول خال عن شيء يثبته أو يمضيه وينفذه، وفي تسمية دينه نوراً ومعاندتهم إطفاء بالأفواه تمثيل لحالهم بحال من يريد إطفاء نور الشمس بنفخه { ويأبى } أي والحال أنه يفعل فعل الأبيّ وهو أنه لا يرضي { الله } أي الذي له جميع العظمة والعز ونفوذ الكلمة { إلا أن يتم نوره } أي لا يقتصر على مجرد إشراقه، بل وعد - وقوله الحق - بأنه لا بد من إكماله وإطفائه لكل ما عداه وإحراقه. ولما في "يأبى" من معنى الجحد دخل عليه الاستثناء، أي إنه يأبى كل حالة إلا حالة إتمامه نوره على التجدد والاستمرار { ولو كره الكافرون* } أي العريقون في الكفر فكيف بغيرهم.
ولما أخبر أنه معل لقوله ومكمل، ومبطل لقولهم مسفل، علل ذلك بما حاصله أنه شأن الملوك، وهو أنهم إذا برز لهم أمر شيء لم يرضوا أن يرده أحد فإن ذلك روح الملك الذي لا يجازي الطاعن فيه إلا بالهلك فقال: { هو } أي وحده { الذي أرسل رسوله } أي محمداً صلى الله عليه وسلم { بالهدى } أي لبيان الشافي بالمعجزات القولية والفعلية { ودين الحق } أي الكامل في بيانه وثباته كمالاً ظاهراً لكل عاقل؛ ثم زادهم جرأة على العدو بقوله معللاً لإرساله: { ليظهره } أي الرسول صلى الله عليه وسلم والدين - أدام الله ظهوره { على الدين كله } وساق ذلك كله مساق الجواب لمن كأنه قال: كيف نقاتلهم وهم في الكثرة والقوة على ما لا يخفي؟ فقال: لم لا تقاتلونهم وأنتم لا تعتمدون على أحد غير من كل شيء تحت قهره، وهم إنما يعتمدون على مخاليق مثلكم، كيف لا تجسرون عليهم وهم في قتالكم إنما يقاتلون ربهم الذي أنتم في طاعته؟ أم كيف لا تصادمونهم وهو الذي أمركم بقتالهم لينصركم ويظهر آياته؟ ولعل الختم بقوله: { ولو كره المشركون* } أبلغ لأن الكفر قد لا يكون فيه عناد، والشرك مبناه على العناد باتخاذ الأنداد، أي لا بد من نصركم خالف من خالف مجرد مخالفة أو ضم إلى ذلك العناد بالاستعانة بمن أراد.