التفاسير

< >
عرض

وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ٱسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ ٱلْقَاعِدِينَ
٨٦
رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ
٨٧
لَـٰكِنِ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٨٨
أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
٨٩
وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٩٠
لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٩١
وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ
٩٢
إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٩٣
-التوبة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما افتتحت قصتهم بأن المتقين لا يتوقفون في الانتداب إلى الجهاد على أمر جديد ولا استئذان، بل يكتفون بما سبق من عموم الحث عليه والندب إليه فيبادرون إليه الطرف ولا يحاذرون الحتف، وأن من المنافقين من يستأذن في الجهاد جاعلاً استئذانه فيه باباً للاستئذان في التخلف عنه، ومنهم من يصرح بالاستئذان في العقود ابتداء من غير تستر، وعقب ذلك بالنهي عن الإعجاب بأموالهم وأولادهم ثم مر في ذكر أقسامهم وما لزمهم من فضائحهم وآثامهم، إلى أن ختم القصة بأن أموالهم إنما هي لفتنتهم لا لرحمتهم، ولمحنتهم لا لمنحتهم، أتبع ذلك بدليله من أنهم لا يتوصلون بها إلى جهاد، ولا يتوسلون إلى دار المعاد، فقال عاطفاً على ما أفهمه السياق من نحو أن يقال لأنهم لا يفعلون بها خيراً ولا يكسبون أجراً، أو بانياً حالاً من الكاف في "تعجبك": { وإذا أنزلت سورة } أي وقع إنزال قطعة من القرآن.
ولما كان الإنزال يدل على المنزل حتماً، فسره بقوله: { أن آمنوا بالله } أي الذي له الكمال كله { وجاهدوا } أي أوقعوا الجهاد { مع رسوله استأذنك } أي في التخلف من لا عذر له وهم { أولوا الطول } أي أهل الفضل من الأموال والسعة والثروة في غالب الأحوال { منهم } وخصهم بالذكر لأن الذم لهم ألزم ولا سيما بعد سماع القرآن، ويجوز أن يكون معطوفاً على خبر { أن } في قوله { ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله } هذا مع ما تضمن استئذانهم من رذائل الأخلاق ودنايا الهمم المحكي بقوله: { وقالوا ذرنا } أي اتركنا ولو على حالة سيئة { نكن } أي بما يوافق جبلاتنا { مع القاعدين* } أي بالعذر المتضمن - لاسيما مع التعبير بذرنا الذي مادته تدور على ما يكره دون "دعنا" - لما استأنف به أو بين من قوله: { رضوا بأن يكونوا } أي كوناً كأنه جبلة لهم { مع الخوالف } أي النساء { وطبع } أي وقع الطبع المانع { على قلوبهم } أي حتى رضوا لأنفسهم بالتخلف عن سبب السعادة مع الكون في عداد المخدرات بما هو عار في الدنيا ونار في العقبى.
ولما أبهم فاعل الطبع، نفى دقيق العلم فقال: { فهم } أي بسبب هذا الطبع { لا يفقهون* } أي لا فقه لهم يعرفون به ما في الجهاد من العز والسعادة في الدارين، وما في التخلف من الشقاء والعار فلذلك لا يجاهدون، فلا شيء أضر من هذه الأموال والأولاد التي أبعدت عن الممادح وألزمت المذام والقوادح، فقد اكتنفت آية الأموال في أول قصة وآخرها ما يدل على مضمونها.
ولما افتتح القصة بمدح المتقين لمسابقتهم إلى الجهاد من دون استئذان ختمها بذلك وذكر ما أعد لهم فقال معلماً بالغنى عنهم بمن هو الخير المحض تبكيتاً لهم وتقريعاً: { لكن الرسول } أي والذي بعثه لرد العباد عن الفساد إلى السداد { والذين آمنوا } أي إيماناً عظيماً كائناً أو كائنين { معه } أي مصاحبين له ذاتاً وحالاً في جميع ما أرسلناه إليهم به { جاهدوا بأموالهم وأنفسهم } أي بذلوا كلاًّ من ذلك في حبه صلى الله عليه وسلم فتحققوا بشرط الإيمان و"لكن" واقعة موقعها بين متنافسين لأن ما مضى من حالهم كله ناطق بأنهم لم يجاهدوا.
ولما كان السياق لبخلهم بالنفس والمال، ولسلب النفع من أموالهم وأولادهم، اقتصر في مدح أوليائه على الجهاد بالنفس والمال ولم يذكر السبيل وقال: { أولئك } دالاً على أنه معطوف على ما تقديره: فأولئك الذين نورت قلوبهم فهم يفقهون، وقوله: { لهم } أي لا لغيرهم { الخيرات } تعرض بذوي الأموال من المنافقين لأن الخير يطلق على المال وتحليته بـ "ال" على استغراقه لجميع منافع الدارين، والتعبير بأداة البعد إشارة إلى علو مقام أوليائه وبعد مناله إلا بفضل منه تعالى، وكذا التعريض بهم بقوله: { وأولئك هم } أي خاصة { المفلحون* } أي الفائزون بجميع مرادهم، لا غيرهم؛ ثم بين الإفلاح الأعظم بقوله: { أعد الله } أي الذي له صفات الكمال { لهم } أي الآن لينعمهم بها بعد موتهم وانتقالهم من هذه الدار التي هي معدن الأكدار { جنات تجري } أي دائماً { من تحتها } أي مع قربها { الأنهار } ثم عرض بهذه الدنيا السريعة الزوال فقال: { خالدين فيها } ثم رغب فيها بقوله: { ذلك } أي الأمر العالي الرتبة { الفوز العظيم* } أي لا غيره.
ولما ختم قصص أهل المدر بذم أولي الطول منهم بتخلفهم، وكان ذمهم إنما هو لكونهم قادرين على الخروج في ذلك الوجه، وقدمهم لكثرة سماعهم للحكمة، وكان أهل الوبر أقدر الناس على السفر لأن مبنى أمرهم على الحل والارتحال، فهم أجدر بالذم لأنهم في غاية الاستعداد لذلك، تلاهم بهم فقال: { وجاء المعذرون } أي المبالغون في إثبات الخفايا من الأعذار المانعة لهم من الجهاد - بما أشار إليه الإدغام، وحقيقة المعذر أن يتوهم أن له عذراً ولا عذر له، والعذر: إيساع الحيلة في وجه يدفع ما ظهر من التقصير { من الأعراب } قيل: هم رهط عامر بن الطفيل من بني عامر، وقيل: اسد وغطفان، قيل: رهط من غفار { ليؤذن } أي ليقع الإذن من أي آذن كان في تخلفهم عن الغزو { لهم } أي فاعتذروا بما كذبوا فيه وقعدوا عن الغزو معك، هكذا كان الأصل فوضع موضعة: { وقعد الذين كذبوا الله } أي وهو المحيط علماً وقدرة { ورسوله } تنبيهاً على وصفهم وليكون أظهر في شمول الأعراب وغيرهم.
ولما كان منهم المحتوم بكفره وغيره قال: { سيصيب } أي بوعد لا خلف فيه { الذين كفروا } أي حتم بكفرهم { منهم عذاب أليم* } أي في الدارين.
ولما كان من القاعدين من أهل المدر والوبر من له عذر، استثناهم سبحانه وساق ذلك مساق النتيحة من المقدمات الظاهرة فقال: { ليس على الضعفاء } أي بنحو الهرم { ولا على المرضى } أي بنحو الحمى والرمد { ولا على الذين لا يجدون } ولو بدين يؤدونه في المستقبل { ما ينفقون } أي لحاجتهم وفقرهم { حرج } أي إثم يميل بهم عن الصراط المستقيم ويخرج دينهم.
ولما كان ربما كان أحد من المنافقين بهذ الصفة احترز عنه بقوله: { إذا نصحوا } أي في تخلفهم وجميع أحوالهم { لله } أي الذي له الجلال والإكرام { ورسوله } أي سراً وعلانية، فإنهم حيئنذ محسنون في نصحهم الذي منه تحسرهم على القعود على هذا الوجه وعزمهم على الخروج متى قدروا، وقوله: { ما على المحسنين } في موضع "ما عليهم" لبيان إحسانهم بنصحهم مع عذرهم { من سبيل } أي طريق إلى ذمهم أو لومهم، والجملة كلها بيان لـ { نصحوا لله ورسوله } وقوله: { والله } أي الذي له صفات الكمال { غفور } أي محاء للذنوب { رحيم* } أي محسن مجمل إشارة إلى أن الإنسان محل التقصير والعجز وإن اجتهد، لا يسعه إلا العفو؛ ثم عطف على ذلك قوله: { ولا على الذين إذا } وأكد المعنى بقوله: { ما أتوك } أي ولم يأتوا بغير قصدك راغبين في الجهاد معك { لتحملهم } وهم لا يجدون محملاً { قلت } أي أتوك قائلاً أو حال قولك، "وقد" مضمرة كما قالوا في
{ حصرت صدورهم } [النساء: 90] { لا أجد ما } أي شيئاً { أحملكم عليه } وأجاب { إذا } بقوله ويجوز أن يكون استئنافاً و"قلت" هو الجواب { تولوا } أي عن سماع هذا القول منك { وأعينهم تفيض } أي تمتلىء فتسيل، وإسناد الفيض إليها أبلغ من حيث أنها جعلت كلها دمعاً: ثم بين الفائض بقوله: { من الدمع } أي دمعاً والأصل: يفيض دمعها، ثم علل فيضها بقوله؛ { حزناً } ثم علل حزنهم بقوله: { ألا يجدوا } أي لعدم وجدانهم { ما ينفقون } فحزنهم في الحقيقة على فوات مرافقتك والكون في حزبك، وهذه قصة الكبائين صرح بها وإن كانوا داخلين في { الذين لا يجدون } إظهاراً لشرفهم وتقريراً لأن الناصح - وإن اجتهد - لا غنى له عن العفو حيث بين أنهم - مع اجتهادهم في تحصيل الأسباب وتحسرهم عند فواتها بما أفاض أعينهم - ممن لا سبيل عليه أو ممن لا حرج عليه المغفور له.
ولما نفى السبيل عمن وصفه كر على ذم من انتفى عنه هذا الوصف فقال تعالى: { إنما السبيل } أي باللوم وغيره { على الذين يستأذنونك } أي يطلبون إذنك في التخلف عنك راغبين فيه { وهم أغنياء } أي فلا عذر لهم في التخلف عنك وعدم مواساتك، وتضمن قوله تعالى مستأنفاً: { رضوا بأن يكونوا } أي كوناً كأنه جبلة لهم { مع الخوالف } انتفاء الضعف والمرض عنهم من حيث إنه علل فعلهم برضاهم بالتخلف فأفهم ذلك أنه لا علة لهم سواه، وأفهم أيضاً أن كل من كان كذلك كان مثلهم ولو أنه ضعيف أو مريض، وكرر ذكر الخوالف تكريراً لعيبهم برضاهم بالكون في عداد النساء إذ كان ذلك من أعظم المعايب عند العرب، وسمى الفاعل للطبع حيث حذفه من الأولى: ولما ذكره، عظم الأمر فاقتضى ذلك عظم الطبع فنفى مطلق العلم فقال عاطفاً على "رضوا": { وطبع الله } أي له القدرة الكاملة والعلم المحيط { على قلوبهم } ثم سبب عن ذلك الرضى والطبع قوله: { فهم لا يعلمون* } أي لا علم له فلذلك جهلوا ما في الجهاد من منافع الدارين لهم فلذلك رضوا بما لا يرضى به عاقل، وهو أبلغ من نفي الفقه في الأولى، وزاد المناسبة حسناً ضم الأعراب في هذه الآيات إلى أهل الحاضرة وهم بعيدون من الفقه جديرون بعدم العلم.