التفاسير

< >
عرض

لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ
١
وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ
٢
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ
٣
لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ
٤
أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ
٥
-البلد

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

لما ختم كلمات الفجر بالجنة التي هي أفضل الأماكن التي يسكنها الخلق، لا سيما المضافة إلى اسمه الأخص المؤذن بأنها أفضل الجنان، بعد ما ختم آياتها بالنفس المطمئنة بعد ذكر الأمارة التي وقعت في كبد الندم الذي يتمنى لأجله العدم، بعد ما تقدم من أنها لا تزال في كبد ابتلاء المعيشة في السراء والضراء، افتتح هذه بالأمارة مقسماً في أمرها بأعظم البلاد وأشرف أولي الانفس المطمئنة، فقال مؤكداً بالنافي من حيث إنه ينفي ضد ما ثبت من مضمون الكلام مع القطع بأنه لم يقصد به غير ذلك: { لا أقسم } أي أقسم قسماً أثبت مضمونه وأنفي ضده، ويمكن أن يكون النفي على ظاهره، والمعنى أن الأمر في الظهور غني عن الإقسام حتى بهذا القسم الذي أنتم عارفون بأنه في غاية العظمة، فيكون كقوله { فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } [الواقعة: 86] { بهذا البلد * } أي الحرام وهو مكة التي لا يصل إليها قاصدوها إلا بشق الأنفس، ولا يزدادون لها مع ذلك إلا حباً، الدال على أن الله تعالى جعلها خير البلاد، وقذف حبها في قلوب من اختارهم من كل حاضر وباد، لأنها تشرفت في أولها وآخرها وأثنائها بخير العباد، ولم يصفه بالأمن لأنه لا يناسب سياق المشقة بخلاف ما في التين، فإن المراد هناك الكمالات.
ولما عظم البلد بالإقسام به، زاده عظماً بالحال به إشعاراً بأن شرف المكان بشرف السكان، وذلك في جملة حالية فقال: { وأنت } يعني وأنت خير كل حاضر وباد { حلٌ } أي مقيم أو حلال لك ما لم يحل لغيرك من قتل من تريد ممن يدعي أنه لا قدرة لأحد عليه { بهذا البلد * } فتحل قتل ابن خطل وغيره وإن كان متعلقاً بأستار الكعبة، وتحرم قتل من دخل دار أبي سفيان وغير ذلك مما فعله الله لك بعد الهجرة بعد نزول هذه السورة المكية بمدة طويله علماً من أعلام النبوة، أو معنى: يستحل أهله منك وأنت أشرف الخلق ما لا يستحلونه من صيد ولا شجر، وكرر إظهاره ولم يضمره زيادة في تعظيمه تقبيحاً لما يستحلونه من أذى المؤمنين فيه، وإشارة إلى أنه يتلذذ بذكره، فقد وقع القسم بسيد البلاد وسيد العباد، ولكل جنس سيد، وهو انتهاؤه في الشرف، فأشرف الجماد الياقوت وهو سيده، ولو ارتفع عن هذا الشرف لصار نباتاً ينمو كما في الجنة، وأشرف جنس النبات النخل ولو ارتفع صار حيواناً يتحرك بالإرادة، فالحيوان سيد الأكوان، وسيده الإنسان، لما له من النطق والبيان، وسيد الإنسان الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام، لما لهم من عظيم الوصلة بالملك الديان، وسيدهم أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم الذي ختموا به لما فاق به من الفضائل التي أعلاها هذا القرآن، فسيد الخلق محمد بن عبد الله رسول الله أشرف الممكنات وسيدها لأنه وصل إلى أعلى مقام يمكن أن يكون لها، ولو بقي فوق ذلك مقام يمكن للممكن لنقل إليه، ولكونه أشرف كانت مكابدته أعلى المكابدات، يصبر على أذى قومه بالكلام الذي هو أنفذ من السهام، ووضع السلاء من الجزور على ظهره الشريف - نفديه بحر وجوهنا ومصون جباهنا وخدودنا - وهو ساجد، ووضع الشوك في طريقه، والإجماع على قصده بجميع أنواع الأذى من الحبس والنفي والقتل بحيث قال صلى الله عليه وسلم
"ما أوذي أحد في الله ما أوذيت
"
. ولما أفهمت هذه الحال أن القسم إنما هو في الحقيقة به صلى الله عليه وسلم، كرر الإقسام به على وجه يشمل غيره فقال: { ووالد } ولما كان المراد التعجيب من ابتداء الخلق بالتوليد من كل حيوان في جميع أمر التوليد ومما عليه الإنسان من النطق والبيان وغريب الفهم وكان السياق لذم أولي الأنفس الأمارة، وكانوا هم أكثر الناس، حسن التعبير بأداة ما لا يعقل لأنها من أدوات التعجيب فقال: { وما ولد * } أي من ذكر أو أنثى كائناً من كان، فدخل كما مضى النبي صلى الله عليه وسلم فصار مقسماً به مراراً، وكذا دخل أبواه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام وما صنعا وما صنع الله لهما بذلك البلد، ومعلوم أن ذكر الصنعة تنبيه على صانعها، فالمقصود القسم بمن جعل البلد على ما هو عليه من الجلال، وخص النبي صلى الله عليه وسلم بما خصه به من الإرسال، وفاوت بين المتوالدين في الخصال، من النقص والكمال وسائر الأحوال، تنبيهاً على ما له من الكمال بالجلال والجمال، ولعله خص هذه الأشياء بالإقسام تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيتاً له على احتمال الأذى، إشارة إلى أن من كان قد حكم عليه بأنه لا يزال في نكد، كان الذي ينبغي له أن يختار أن يكون ذلك النكد فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة المشرفة في أعظم شدة مما يعانيه من أذى الكفار في نفسه وأصحابه رضي الله عنهم لعلو مقامه، فإن شدة البلاء للأمثل فالأمثل كما مضى مع أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر والصفح، وكل والد ومولود في شدة بالوالدية والمولودية، وغير ذلك مما لا يحصى من الأنكاد البشرية، من حين هو نطفة في ظلمات ثلاث في ضيق ممر ومقر ثم ولادة وربط في تابوت وفطام عن الإلف والأهل؟ من المؤدب والمعلم وتوبيخ من المشايخ ومعاندة من الأقران، ومن يتسلط عليه من النسوان، مع أنه عرضة للأمراض، وسائر ما يكره من الأعراض والأغراض، والفاقات والنوائب والآفات، والمطالب والحاجات، لا يحظى بهواه، ولا يبلغ مناه، ولا يدرك ما اجتباه، ولا ينجو غالباً مما يخشاه، وتفاصيل هذا الإجمال لا تحصى، ولا حد لها فتستقصى، إلى الموت وما بعده، فلذلك كان المقسم عليه قوله: { لقد خلقنا } أي بما لنا من القدرة التامة والعظمة التي لا تضاهى { الإنسان } أي هذا النوع { في كبد * } أي شدة شديدة ومشقة عظيمة محيطة به إحاطة الظرف بالمظروف، لو وكله سبحانه وتعالى في شيء منها إلى نفسه هلك، ولولا هذه البلايا لادعى ما لا يليق به من عظيم المزايا، وقد ادعى بعضهم مع ذلك الإلهية وبعضهم الاتحاد برب العباد - تعالى الله عن قولهم الواضح الفساد، بما قرنه به سبحانه وتعالى من الموت والمرض وسائر الأنكاد، فعل سبحانه ذلك ليظهر بما للعبد من الضعف والعجز - مع ما منحه به من القوى الظاهرة والباطنة في القول والفعل والبطش والعقل - ما له سبحانه من تمام العلم وشمول القدرة، وليظهر من خلقه له على هذه الصفة، علم جميع ما في السورة، فعلم قطعاً إنكار ظنه لتناهي قدرته وتعالي عظمته، وفساد هذا الظن بشاهد العقل من حيث كونه مصنوعاً، وبشاهد الوجود من أجل أنه يسلك طريق الشر ولا يقدر على طريق الخير إلا بالتوفيق، فعلم قطعاً إعجاز السورة لأنه لا قدرة لمخلوق على أن يأتي بجملة واحدة تجمع جميع ما وراءها من الجمل - هذا إلى ما لها من فنون الإيجاز التي وصلت إلى حد الإعجاز، هذا إلى ما لبقية الجمل من الإعجاز في حسن الرصف وإحكام التركيب والربط والمراعاة بالألفاظ للمعاني إلى غير ذلك مما لا يبلغ كنهه إلى منزله سبحانه وعز شأنه، وعلم أن الإكرام والإهانة ليستا دائرتين على التنعيم في الدنيا والتضييق كما تقدم شرحه في سورة الفجر، ولأجل ما علم من كون الإنسان لا يزال في نكد وشدة ونصب من حث احتياجه أولاً إلى مطلق الحركة والسكون، وثانياً إلى المأكل والمشرب، وثالثاً إلى ما يترتب عليهما إلى غير ذلك مما يعيي عده ويجهل حده، توجه الإنكار في قوله تعالى بياناً للأسباب الموقعة له في النكد، وهي شهوتان: نفسية وحسية، والنفسية منحصرة في أربع: الأولى أنه يشتهي أن يكون كل من في الوجود في قبضته فأشار إليها { أيحسب } أي هذا الإنسان لضعف عقله مع ما هو فيه من أنواع الشدائد { أن لن يقدر } ولما أكد بالفعلية وخصوص هذا النافي قدم الجار تأكيداً بما يفيد من الاهتمام بالإنسان فقال: { عليه } أي خاصة { أحد * } أي من أهل الأرض أو السماء فيغلبه حتى أنه يعاند خالقه مع ما ينظر من اقتداره على أمثاله بنفسه وبمن شاء من جنوده فيعادي رسله عليهم الصلاة والسلام ويجحد آياته.