التفاسير

< >
عرض

قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا
٩
وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا
١٠
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ
١١
إِذِ ٱنبَعَثَ أَشْقَاهَا
١٢
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقْيَاهَا
١٣
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا
١٤
وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا
١٥
-الشمس

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان من المعلوم أن من سمع هذا الكلام يعلم أن التقوى لا يكون إلا مأموراً بها، والفجور لا يكون إلا منهياً عنه، فيتوقع ما يقال فيهما مما يتأثر عنهما، قال تعالى: { قد أفلح } أي ظفر بجميع المرادات { من زكاها * } أي نماها وأصلحها وصفاها تصفية عظيمة بما يسره الله له من العلوم النافعة والأعمال الصالحة وطهرها على ما يسره لمجانبته من مذامّ الأخلاق لأن كلاًّ ميسر لما خلق له، والدين بني على التحلية والتخلية و"زكى" صالح للمعنيين { وقد خاب } أي حرم مراده مما أعد لغيره في الدار الآخرة وخسر وكان سعيه باطلاً { من دساها * } أي أغواها إغواء عظيماً وأفسدها ودنس محياها وقذرها وحقرها وأهلكها بخبائث الاعتقاد ومساوىء الأعمال، وقبائح النيات والأحوال، وأخفاها بالجهالة والفسوق، والجلافة والعقوق، وأصل "دسى" دسس، فالتزكية أن يحرص الإنسان على شمسه أن لا تكسف، وقمره أن لا يخسف، ونهاره أن لا يتكدر، وليله ألا يطفى، والتدسيس أقله إهمال الأمر حتى تكسف شمسه، ويخسف قمره، ويتكدر نهاره، ويدوم ليله، وطرق ذلك اعتبار نظائر المذكورات من الروحانيات وإعطاء كل ذي حق حقه، فنظير الشمس هي النبوة لأنها كلها ضياء باهر وصفاء قاهر، وضحاها الرسالة وقمرها الولاية، والنهار هو العرفان، واليل عدم طمأنينة النفس بذكر الله وما جاء من عنده، وإعراضها عن الانقياد لقبول ما جاء من النبوة أو الولاية، والعلماء العاملون هم أولياء الله، قال الإمامان أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما: إن لم تكن العلماء أولياء الله فليس الله ولي - رواه عنهما الحافظ أبو بكر الخطيب، وهو مذكور في التبيان وغيره من مصنفات النووي، ونظير السماء العزة والترفع عن الشهوات وعن خطوات الشياطين من الإنس والجن، والأرض نظيرها التواضع لحق الله ولرسوله وللمؤمنين فيكون بإخراجه المنافع لهم كالأرض المخرجة لنباتها، والتدسية خلاف ذلك، من عمل بالسوء فقد هضم نفسه وحقرها فأخفاها كما أن اللئام ينزلون بطون الأودية ومقاطعها بحيث تخفى أماكنهم على الطارقين، والأجواد ينزلون الروابي، ويوقدون النيران للطارقين، ويشهرون أماكنهم للمضيفين منازل الأشراف في الأطراف كما قيل:

قوم على المحتاج سهل وصلهم ومقامهم وعر على الفرسان

ولما كان السياق للترهيب بما دلت عليه سورة البلد وتقديم الفجور هنا، وكان الترهيب أحث على الزكاء، قال دالاًّ على خيبة المدسي ليعتبر به من سمع خبره لا سيما إن كان يعرف أثره: { كذبت ثمود } أنث فعلهم لضعف أثر تكذيبهم لأن كل سامع له يعرف ظلمهم فيه لوضوح آيتهم وقبيح غايتهم، وما لهم بسفول الهمم وقباحة الشيم، وخصهم لأن آيتهم مع أنها كانت أوضح الآيات في نفسها هي أدلها على الساعة، وقريش وسائر العرب عارفون بهم لما يرون من آثارهم، ويتناقلون من أخبارهم { بطغواها * } أي أوقعت التكذيب لرسولها بكل ما أتى به عن الله تعالى بسبب ما كان لنفوسهم من وصف الطغيان، وهو مجاوزة القدر وارتفاعه والغلو في الكفر والإسراف في المعاصي والظلم، أو بما توعدوا به من العذاب العاجل وهي الطاغية التي أهلكوا بها، وطغى - واوي يائي يقال: طغى كدعا يطغو طغوى وطغواناً - بضمها كطغى يطغى، وطغي كرضي طغياً وطغياناً - بالكسر والضم، فالطغوى - بالفتح اسم، وبالضم مصدر، فقلبت الياء - على تقدير كونه يائياً - واواً للتفرقة بين الاسم والصفة، واختير التعبير به دون اليائي لقوة الواو، فأفهم أنهم بلغوا النهاية في تكذيبهم، فكانوا على الغاية من سوء تعذيبهم.
ولما ذكر تكذيبهم، دل عليه بقوله: { إذ } أي تحقق تكذيبهم أو طغيانهم بالفعل حين { انبعث أشقاها * } أي أشد ثمود شقاء وهو عاقر الناقة للمشاركة في الكفر والزيادة بمباشرة العقر، وهو قدار بن سالف، أو هو ومن مالاه على عقرها، فإن أفعل التفضيل إذا أضيف صلح للواحد والجمع { فقال لهم } أي بسبب الانبعاث أو التكذيب الذي دل على قصدهم لها بالأذى، وأظهر ولم يضمر وعين الإظهار بالجلالة إشارة إلى عظيم آيتهم وبديع بدايتهم ونهايتهم فقال: { رسول الله } أي الملك الذي له الأمر كله، فتعظميه من تعظيم مرسله وهو صالح عليه الصلاة والسلام وكذا الناقة، وعبر بالرسول لأن وظيفته الإبلاغ والتحذير الذي ذكر هنا، ولذا قال مشيراً بحذف العامل إلى ضيق الحال عن ذكره لعظيم الهول وسرعة التعذيب عند مسها بالأذى، وزاد في التعظيم بإعادة الجلالة: { ناقة الله } أي الملك الأعظم الذي له الجبروت كله فلا يقر من انتهك حرمته واجترأ على ما أضافه إليه، ولهذا أعاد الإظهار دون الإضمار، والعامل: دعوا أو احذروا - أو نحو ذلك أي احذروا أذاها بكل اعتبار { وسقياها * } أي الماء الذي جعله الله تعالى لها لسقيها وهو بئرها، فلا تذودوها عن بئرها في اليوم الذي تكون فيه نوبتها في الشرب ولا تمسوها بسوء، وكأنه صلى الله عليه وسلم فهم عنهم بعد مدة أنهم يريدون عقرها فكرر عليهم التحذير { فكذبوه } أي أوقعوا تكذيبه بسبب طغيانهم وعقب أمره هذا الأخير فيما حذر من حلول العذاب، أو تكون الفاء هي الفصيحة أي قال لهم ذلك فكانت بعده بينه وبينهم في أمرها أمور، فأوقعوا تكذيبه فيها كلها { فعقروها } أي بسبب ذلك التكذيب بعضهم بالفعل وبعضهم بالرضا به { فدمدم } أي عذب عذاباً تاماً مجلّلاً مغطياً مطبقاً مستأصلاً شدخ به رؤوسهم وأسرع في الإجهاز وطحنهم طحناً مع الغضب الشديد؛ قال الرازي: والدمدمة: تحريك البناء حتى ينقلب، ودل بأداة الاستعلاء على شدته وإحاطته فقال: { عليهم } ودل على شدة العذاب لشدة الغضب بلفت القول بذكر صفة الإحسان التي كفروها لأنه لا أشد غضباً ممن كفر إحسانه فقال: { ربهم } أي الذي أحسن إليهم فغرَّهم إحسانه فقطعه عنهم فعادوا كأمس الدابر { بذنبهم } أي بسببه.
ولما استووا في الظلم والكفر بسبب عقر الناقة بعضهم بالفعل وبعضهم بالرضا والحث، قال مسبباً عن ذلك ومعقباً: { فسواها * } أي الدمدمة عليهم فجعلها كأنها أرض بولغ في تعديلها فلم يكن فيها شيء خارج عن شيء كما سوى الشمس المقسم بها وسوى بين الناس فيها، وكذا ما أقسم به بعدها، فكانت الدمدمة على قويهم كما كانت على ضعيفهم، فلم تدع منهم أحداً ولم يتقدم هلاك أحد منهم على أحد، بل كانوا كلهم كنفس واحدة من قوة الصعقة وشدة الرجفة كما أنهم استووا في الكفر والرضا بعقر الناقة وكل نفس هي عند صاحبها كالناقة قد أوصى الله صاحبها أن يرعى نعمته سبحانه فيها فيزكيها ولا يدسيها، فإن الناقة عبارة عن مطية يقطع عليها السير حساً أو معنى، وذلك صالح لأن يراد به النفس التي تقطع بها عقبات الأعمال، والسقيا ما يعيش المسقيّ به، وهو صالح لأن يراد به الذكر والعبادة، فمن لم يرع النعمة ويشكر المنعم فقد عقرها، فاستحق الدمدمة منه، وكما أنه سوى بينهم في الدمدمة سوى بين المهتدين في النجاة { ولا } أي والحال أنه لا { يخاف } في وقت من الأوقات أي ربهم، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ويؤيده قراءة أهل المدينة والشام بالفاء المسببة عن الدمدمة والتسوية وكذلك هي في مصاحفهم { عقباها * } أي عاقبة هذه الدمدمة وتبعتها فإنه الملك الأعلى الذي كل شيء في قبضته لا كما يخاف كل معاقب من الملوك فيبقى بعض الإبقاء فعلم أنه سبحانه وتعالى يعلي أولياءه لأنهم على الحق، ويسفل أعداءه لأنهم على الباطل، فلا يضل بعد ذلك إلا هالك، بصيرته أشد ظلاماً من الليل الحالك، وقد رجع آخرها على أولها بالقسم وجوابه المحذوف الذي هو طبع النفوس على طبائع مختلفة والتقدم إليهم بالإنذار من الهلاك، ونفس القسم أيضاً فإن من له هذه الأفعال الهائلة التي سوى بين خلقه فيها وهذا التدبير المحكم هو بحيث لا يعجزه أمر ولا يخشى عاقبة - والله الموفق للصواب.