التفاسير

< >
عرض

وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ
١١
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ
١٢
وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَٱلأُولَىٰ
١٣
فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ
١٤
لاَ يَصْلَٰهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى
١٥
ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
١٦
وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى
١٧
ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ
١٨
وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ
١٩
إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ
٢٠
وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ
٢١
-الليل

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان أهل الدنيا إذا وقعوا في ورطة تخلصوا منها بأموالهم قال: { وما يغني } أي في تلك الحالة { عنه } أي هذا الذي بخل وكذب { ماله } أي الذي بخل به رجاء نفعه، ويجوز أن يكون استفهاماً إنكارياً فيكون نافياً للإغناء على أبلغ وجه { إذا تردّى * } أي هلك بالسقوط في حفرة القبر والنار، تفعّل من الردى وهو الهلاك والسقوط في بئر.
ولما كان ربما قال المتعنت الجاهل بما له سبحانه وتعالى من العظمة التي لا اعتراض لأحد عليها: ما له لا ييسر الكل للحسنى، استأنف جوابه مبيناً من ألزم به نفسه من المصالح تفضلاً منه بما له من اللطف والكرم وما يفعله مما هو له من غير نظر إلى ذلك بما له من الجبروت والكبر، فقال مؤكداً تنبيهاً على أنه يحب العلم بأنه لا حق لأحد عليه أصلاً: { إن علينا } أي على ما لنا من العظمة { للهدى * } أي البيان للطريق الحق وإقامة الأدلة الواضحة على ذلك.
ولما بين ما ألزمه نفسه المقدس فصار كأنه عليه لتحتم وقوعه فكان ربما أوهم أنه يلزمه شيء، أتبعه ما ينفيه ويفيد أن له غاية التصرف فلا يعسر عليه شيء أراده فقال: { وإن لنا } أي يا أيها المنكرون خاصاً بنا، وقدم ما العناية به أشد لأجل إنكارهم لا للفاصلة، فإنه يفيدها مثلاً أن يقال: للعاجلة والأخرى، فقال: { للآخرة والأولى * } فمن ترك ما بينا له من طريق الهداية لم يخرج عن كونه لنا ولم يضر إلا نفسه ولنا التصرف التام، بما نقيم من الأسباب المقربة للشيء جداً، ثم بما نقيم من الموانع الموجبة لبعده غاية البعد، فنعطي من نشاء ما نشاء ونمنع من نشاء ما نشاء، ومن طلب منهما شيئاً من غيرنا فال رأيه وخاب سعيه، وليس التقديم لأجل الفاصلة، فقد ثبت بطلان هذا وأنه لا يحل اعتقاده في غير موضع، منها آخر سورة براءة، وأنه لا فرق بين أن يعتقد أن فيه شيئاً موزوناً بقصد الوزن فقط ليكون شعراً، وأن يعتقد أن فيه شيئاً قدم أو أخر لأجل الفاصلة فقط ليكون سجعاً، على أنه لو كان هذا لأجل الفاصلة فقط لكان يمكن أن يقال: للأولى - أو للأولة - والأخرى مثلاً.
ولما أخبر سبحانه وتعالى أنه ألزم نفسه المقدس البيان، وأن له كل شيء، المستلزم لإحاطة العلم وشمول القدرة، شرح ذلك بما سبب عنه من قوله لافتاً القول إلى تجريد الضمير من مظهر العظمة للترقق بالمخاطبين في تبعيد الوهم وتقريب الفهم فقال: { فأنذرتكم } أي حذرتكم أيها المخالفون للطريق الذي بينته { ناراً تلظّى * } أي تتقد وتتلهب تلهباً هو في غاية الشدة من غير كلفة فيه على موقدها أصلاً ولا أحد من خزنتها - بما أشار إليه إسقاط التاء، وفي الإدغام أيضاً إشارة إلى أن أدنى نار الآخرة كذلك، فيصير إنذار ما يتلظى وما فوق ذلك من باب الأولى.
ولما كان قد تقدم غير مرة تخصيص كل من المحسن والمسيء بداره بطريق الحصر إنكاراً لأن يسوى محسن بمسيء في شيء، وكان الحصر بـ"لا" و "إلا" أصرح أنواعه قال: { لا يصلاها } أي يقاسي حرها وشدتها على طريق اللزوم والانغماس { إلا الأشقى * } أي الذي هو في الذروة من الشقاوة وهو الكافر، فإن الفاسق وإن دخلها لا يكون ذلك له على طريق اللزوم، ولذلك وصفه بقوله تعالى: { الذي كذب } أي أفسد قوته العلمية بأن أعرض عن الحق تكبراً وعناداً فلم يؤت ماله لزكاة نفسه { وسيجنبها } أي النار الموصوفة بوعد لا خلف فيه عن قرب - بما أفهمته السين من التأكيد مع التنفيس، وتجنيبه له في غاية السهولة - بما أفهمه البناء للمفعول { الأتقى * } أي الذي أسس قوته العلمية أمكن تأسيس، فكان في الذروة من رتبة التقوى وهو الذي اتقى الشرك والمعاصي، وهو يفهم أن من لم يكن في الذروة لا يكون كذلك، فإن الفاسق يدخلها ثم يخرج منها، ولا ينافي الحصر السابق.
ولما ذكر ما يتعلق بالقوة العلمية، أتبعه ما ينظر إلى القوة العملية فقال: { الذي يؤتي ماله } أي يصرفه في مصارف الخير، ولذلك بينه بقوله تعالى: { يتزكّى * } أي يتطهر من الأوضار والأدناس بتطهيره لنفسه وتنميتها بذلك الإيتاء بالبعد عن مساوىء الأخلاق ولزوم محاسنها لأنه ما كذب وما تولى، والآية من الاحتباك: ذكر التكذيب أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً، وإيتاء المال ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً.
ولما كان الإنسان قد يعطي ليزكي نفسه بدفع مانّه ومكافأة نعمه قال: { وما } أي والحال أنه ما { لأحد عنده } وأعرق في النفي فقال: { من نعمة تجزى * } أي هي مما يحق جزاؤه لأجلها. ولما نفى أن يكون بذلك قصد مكافأة، قال مبيناً قصده باستثناء منقطع: { إلا } أي لكن قصد بذلك { ابتغاء } أي طلب وقصد، ولفت القول إلى صفة الإحسان إشارة إلى وصفه بالشكر فقال: { وجه ربه } الذي أوجده ورباه وأحسن إليه بحيث إنه لم ير إحساناً إلا منه ولا عنده شيء إلا وهو من فضله { الأعلى * } أي مطلقاً فهو أعلى من كل شيء، فلا يمكن أن يعطي أحد من نفسه شيئاً يقع مكافأة له، وعبر عن المنقطع بأداة المتصل للإشارة إلى أن الابتغاء المذكور كأنه نعمة ممن آتاه المال لأن الابتغاء - وهو تطلب رضا الله - كان السبب في ذلك الإيتاء بغاية الترغيب، وقد آل الأمر بهذه العبارة الرشيقة والإشارة الأنيقة مع ما أومأت إليه من الترغيب، وأعطته من التحبيب إلى أن المعنى: إنه لا نعمى عليه لأحد في ذلك إلا الله، وعبر بالوجه إشارة إلى أن قصده أعلى القصود فلا نظر له إلا إلى ذاته سبحانه وتعالى التي عبر عنها بالوجه لأنه أشرف الذات، وبالنظر إليه تحصل الحياة والرغبة والرهبة، لا إلى طلب شيء من دنيا ولا آخرة. ولما كان هذا مقاماً ليس فوقه مقام، قال تعالى بعد وعده من الإنجاء من النار: { ولسوف يرضى * } أي بإعطاء الجنة العليا والمزيد بوعد لا خلف فيه بعد المذلة في الحياة الطيبة - بما أشارت إليه أداة التنفيس ولا بدع أن يكون هذا الوعد على هذا الوجه الأعلى لأن الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين اشترى بلالاً رضي الله عنه في جماعة من الضعفاء المسلمين يؤذيهم المشركون فأعتقهم، فبين تعالى أنه مطبوع على تزكية نفسه فهو المفلح كما ذكر في سورة الشمس، وأنه مخلص لإعطائه الضعفاء من الأيتام والمساكين وإعتاقه الضعفاء في كل حال كما ذكر في سورة البلد، نقل البغوي رضي الله تعالى عنه عن الزبير يعني ابن بكار أنه قال: كان أبو بكر رضي الله عنه يبتاع الضعفاء فيعتقهم فقال له أبوه: أي بني! لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، قال: منع ظهري أريد. وقال: إنه أعتق بلالاً وأم عميس وزهرة فأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كذبوا وبيت الله، ما تضر اللات والعزى ولا تنفعان، فرد الله عليها بصرها، وأعتق النهدية وابنتها وجارية بني المؤمل. وقال: إنه اشترى بلالاً من أمية بن خلف استنقاذاً له مما كان فيه من العذاب حين كان يشد يديه ورجليه وقت الهاجرة ويلقيه عرياناً على الرمضاء ويضربه، وكلما ضربه صاح ونادى: أحد أحد، فيزيده ضرباً فاشتراه بعبد كان لأبي بكر رضي الله عنه، كان ذلك العبد صاحب عشرة الآف دينار وغلمان وجوار ومواش وكان مشركاً، فلما اشتراه به وأعتقه قال المشركون: ما فعل هذا ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده، يعني فأنزل الله ذلك تكذيباً لهم. ومن أبدع الأشياء تعقيبها بالضحى التي هي في النبي صلى الله عليه وسلم وفيها
{ ولسوف يعطيك ربك فترضى } [الضحى: 5] إشارة إلى أنه أقرب أمته إلى مقامه صلى الله عليه وسلم ما عدا عيسى صلى الله عليه وسلم لأنه الأتقى بعد النبيين مطلقاً، وإلى أن خلافته حق لا مرية فيه لأنه مما وعد النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرضيه وأنه لا يرضيه غيره كما أنه أرضاه خلافته له في الصلاة ولم يرضه غيره حين نهى عن ذلك بل زجر لما سمع قراءة غيره وقال: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر رضي الله عنه" وقد رجع آخرها على أولها بأن سعي هذا الصديق رضي الله عنه مباين أتم مباينة سعي ذلك الأشقى، وقال بعضهم: إن المراد بذلك الأشقى أبو جهل، وأيضاً فإن هذا الختم دال على أن من صفى نفسه وزكاها بالتجلي بالنور المعنوي من إنارة ظلام الليل بما يجليه به من ضياء القيام وغير ذلك من أنواع الخير يرضى بالنور الحسي بعد الموت - والله الموفق للصواب.