التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ
١
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ
٢
ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ
٣
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
٤
فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً
٥
إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً
٦
فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ
٧
وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرْغَبْ
٨
-الشرح

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أمره صلى الله عليه وسلم آخر الضحى بالتحديث بنعمته التي أنعمها عليه فصلها في هذه السورة فقال مثبتاً لها في استفهام إنكاري مبالغة في إثباتها عند من ينكرها والتقرير بها مقدماً المنة بالشرح في صورته قبل الإعلام بالمغفرة كما فعل ذلك في سورة الفتح الذي هو نتيجة الشرح، لتكون البشارة بالإكرام أولاً لافتاً القول إلى مظهر العظمة تعظيماً للشرح. { ألم نشرح } أي شرحاً يليق بعظمتنا { لك } أي خاصة.
ولما عين المشروح له، فكان المشروح مبهماً، فزاد تشوف النفس إليه ليكون أضخم له، بينه ليكون بياناً بعد إبهام فيكون أعظم في التنويه به وأجل في التعريف بأمره فقال: { صدرك * } أي نسره ونفرحه بالهجرة، فإن هذه السورة مدنية عند ابن عباس رضي الله عنهما، ونجله ونعظمه ونخرج منه قلبك ونشقه ونغسله ونملأه إيماناً وحكمة ورأفة وعلماً ورحمة، فانفسح جداً حتى وسع مناجاة الحق ودعوة الخلق، فكان مع الحق بعظمته وارتفاعه، ومع الخلق بفيض أنواره وشعاعه، وقد كان هذا الشرع حقيقة مراراً، وكان مجازاً أيضاً بإحلال جميع معانيه، وكل ذلك على ما لا يدخل تحت الوصف لا يعبر لكم عنه بأثر من أنه شق بعظمتنا، فالعلم الذي شق به معرفة الله والدار الآخرة والدين والدنيا، والحمة التي درّت فيه هي وضع الشيء في محله، وإعطاء كل ذي حق حقه، وقرأ أبو جعفر المنصور بفتح جاء "نشرح" وخرجها ابن عطية على التأكيد بالنون الخفيفة ثم أبدل ألف من النون، ثم حذف النون تخفيفاً، وقال أبو حيان بأن اللحياني حكى في نوادره عن بعض العرب النصب بلم والجزم بلن، وسره هنا أن الفتح في اللفظ مناسب غاية المناسب للشرح، ووجه قراءة الجمهور أنه لما دل على الفتح بالشرح دل بالجزم على أنه مع ذلك رابط لما أودعه من الحكم ضابط له، هاد بما فيه من رزانة العلم، ووقار التقى والحلم، قال ابن برجان: ففرق ما بين النبي والولي في ذلك أن النبي شرح صدره ظاهراً فأعلى ظاهراً، والولي شرح ذلك منه باطناً فعلى به باطناً، والكافر ضيق ذلك منه وأبقى بظلمته وحظوظ الشيطان منه فهو لا يستطيع قبول الهداية ولا الصعود في معارج العبرة إلا على مقدار ما يستطيع الصعود في السماء
{ كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } [الأنعام: 125].
ولما كانت سعة الصدر بالعلم والحكمة هي الجمال باجتماع المحاسن، وكان ذلك مع حمل ما يعني من أعظم النكد، وكان الجمال بجمع المحاسن لا يكمل إلا إذا جمع إلى الجمال الجلال بانتفاء الرذائل، وكان الاستفهام الإنكاري إذا اجتمع مع النفي صار إثباتاً، لأنه نفي للنفي، قال عاطفاً عليه ما لا يعطف إلا مع الإثبات { ووضعنا } أي حططنا وأسقطنا وأبطلنا حطاً لا رجعة له ولا فيه بوجه بما لنا من العظمة، مجاوزاً { عنك وزرك * } أي حملك الثقيل الذي لا يستطاع حمله، ولذلك وصفه بقوله: { الذي أنقض ظهرك * } أي جعله وهو عماد بدنك تصوت مفاصله من الثقل كما يصوت الرحل الجديد إذا لز بالحمل الثقيل، وذلك هو ما دهمه عندما أمر بإنذار قومه ومفاجأتهم بما يكرهون عن عيب دينهم وتضليل آبائهم وتسفيه حلومهم في التدين بدين لا يرضاه أدنى العقلاء إذا تأمل شيئاً من تأمل مع التجرد من حظ النفس مع ما عندهم من الأنفة والحمية وإلقاء الأنفس في المهالك لأدنى غضب، فقال:
"يا رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة" فخفف سبحانه وتعالى عنه ذلك بما أظهر له من الكرامات وأيده به من المعجزات، وضمن له من الحماية إلى أمور لا يحيط بها علماً إلا الذي أيده بها { والله يعصمك من الناس } [المائدة: 67] حتى خف ذلك عليه، فصار أشفق أهله عليه يمنعه من بعض الإبلاغ ويمسك بثوبه لئلا يخرج إلى النار فيقول لهم ذلك فيحصل له ما يكره فيجذب نفسه منه ويخرج إليهم فيخبرهم كما وقع في أمر الإسراء وغيره، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو أن جبريل عليه الصلاة والسلام شق صدره فأخرج منه قلبه فشرحه وأخرج منه علقة سوداء فأنقاه وغسله ثم ملأه علماً وإيماناً وحكمة، يعني فصار يحتمل ما لا يحتمله غيره، وخف عليه ما يثقل على غيره، ولا شك أن ذلك وزر لغوي، وهو واضح، وشرعي بالمال على تقدير ترك الامتثال اللازم للاستثقال، وقد أعاذه الله من ذلك.
وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: معنى هذه السورة من معنى السورة قبلها، وحاصل السورتين تعداد نعمه سبحانه وتعالى عليه، فإن قلت: فلم فصلت سورة ألم نشرح ولم ينسق ذكر هذه النعم في سورة واحدة، قلت: من المعهود في البشر فيمن عدد على ولده أو عبده نعماً أن يذكر له أولاً ما شاهد الحصور عليه منها بسببه مما يمكن أن يتعلق في بعضها بأن ذلك وقع جزاء لا ابتداء، فإذا استوفى له ما قصده من هذا، أتبعه بذكر نعم ابتدائية قد كان ابتداؤه بها قبل وجوده كقول الأب مثلاً لابنه: ألم أختر لأجلك الأم والنفقة حيث استولدتك وأعددت من مصالحك كذا وكذا، ونظير ما أشرنا إليه بقوله سبحانه لزكريا عليه الصلاة والسلام
{ ولم تك شيئاً } [مريم: 9] وقد قدم له { إنا نبشرك بيحيى } [مريم: 7] والية { إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى } وتوهم استبداد الكسبية في وجود الولد غير خافية في حق من قصر نظره ولم يوفق فابتدىء بذكرها ثم أعقب بما لا يمكن أن يتوهم فيه ذلك، وهو قوله: { وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً } [مريم: 9] وله نظائر من الكتب وعليه جاء ما ورد في هاتين السورتين - والله أعلم - انتهى.
ولما شرفه في نفسه بالكمال الجامع للجلال إلى الجلال، وكان ذلك لا يصفو إلا مع الشرف عند الناس قال: { ورفعنا } أي بما لنا من العظمة والقدرة الباهرة { لك } أي خاصة رفعة تتلاشى عندها رفعة غيرك من الخلق كلهم { ذكرك * } عند جميع العالمين العقلاء وغيرهم بالصدق والأمانة والحلم والرزانة ومكارم الأخلاق وطهارة الشيم وانتفاء شوائب النقص حتى ما كانت شهرتك عند قومك قبل النبوة إلا الأمين، وكانوا يضربون المثل بشمائلك الطاهرة، وأوصافك الزاهرة الباهرة، ثم بالنبوة ثم بالرسالة ثم بالهجرة، وبأن جعلنا اسمك مقروناً باسمنا في كلمة التوحيد والإيمان والأذان والإقامة والتشهد والخطبة، فلا أذكر إلا وذكرت معي، ومن الكرامة الظفر على أعدائك والكرامة لأوليائك، وجعل رضاك رضاي وطاعتك طاعتي، وأمر ملائكتي بالصلاة عليك، ومخاطبتي لك بالألقاب العلية والسمات المعزة المعلية من الرسول والنبي، ونحو ذلك على حسب الأساليب ومناسبات التراكيب إلى غير ذلك من فضائل ومناقب وشمائل لا تضبط بالوصف، قال الرازي: ثم جعل لأمته من ذلك أوفر الحظ، قيل: يا رسول الله، من أولياء الله؟ قال:
"الذين إذا ذُكروا ذُكر الله" وفي حديث: "الذين إذا رُؤُوا ذُكر الله" وقال: "خياركم من تذكر الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويزهدكم في الدنيا عمله" فمنتهى قسمة الثناء أن خلط ذكره بذكره.
ولما ذكر هذه المآثر الشريفة التي هي الكمال، وكان الكمال لا يصفو إلا مع مساعدة الأقدار، فإن الهمم إذا عظمت اتسعت مجالاتها، فإذا حصل فيها تعطيل حصل فيها نكد حسبه، بين أنه أزال عنه العوائق في عبارة دالة على أن سبب المنحة بهذه الكمالات هو ما كان صلى الله عليه وسلم فيه من الصبر على الأكدار، وتجرع مرارات الأقدار، فقال مؤكداً ترغيباً في حمل مثل ذلك رجاء في الإثابة بما يليق من هذه المعالي مبالغاً في الحث على تحمله بذكر المعية إشارة إلى تقارب الزمنين بحيث إنهما كانا كالمتلازمين مسبباً عما مضى ذكره من حاله من الضحى: { فإن } أي فعل بك سبحانه هذه الكمالات الكبار بسبب أنه قضى في الأزل قضاء لا مرد له ولا معقب لشيء منه أن { مع العسر } أي هذا النوع خاصة { يسراً * } أي عظيماً جداً يجلب به المصالح ويشرح به ما كان قيده من القرائح، فإن أهل البلاء ما زالوا ينتظرون الرخاء علماً منهم بالفطرة الأولى التي فطر الناس عليها أنه المتفرد بالكمال، وأنه الفاعل بالاختيار لنسمه الكوائن بأضدادها، وقد أجرى سنته القديمة سبحانه وتعالى بأن الفرج مع الكرب، فلما قاسى صلى الله عليه وسلم مما ذكر في الضحى من اليتم الشديد وضلال قومه العرب خاصة كلهم الذين ألهمه الله تعالى مخالفتهم في أصل الدين بتجنب الأوثان، وفي فرعه بالوقوف مع الناس في الحج في عرفة موقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومن العيلة ما لم يحمله أحد حتى كان بحيث يمتن سبحانه وتعالى عليه بإنقاذه منه في كتابه القديم وذكره الحكيم، وكان مع تحمل ذلك قائماً بما يحق له من الصبر ويعلو إلى معالي الشكر "فيحمل" - كما قالت الصديقة الكبرى خديجة رضي الله تعالى عنها - "الكَلَّ، ويقري الضيف، ويصل الرحم، ويعين على نوائب الحق". ثم حمل أعباء النبوة فكان يلقى من قومه من الأذى والكرب والبلاء ما لم يحمله غيره، بشره الله تعالى بأنه ييسر له جميع ذلك ويلين قلوبهم فيظهر دينه على الدين كله، ويغني أصحابه رضي الله عنهم بعد عيلتهم، ويكثرهم بعد قلتهم، ويعزهم بعد ذلتهم، ويصير هؤلاء المخالفون له أعظم الأعضاد، وينقاد له المخالف أتم انقياد، ويفتح له أكثر البلاد، ليكون هذا العطاء في اليسر بحسب ما كان وقع من العسر، فإنه قضى سبحانه وتعالى قضاء لا يرتد أنه يخالف بين الأحوال، دليلاً قاطعاً على أنه تعالى وحده الفعال، وأن فعله بالاختيار، لا بالذات والإجبار.
ولما كان العسر مكروهاً إلى النفوس، وكان لله سبحانه وتعالى فيه حكماً عظيمة، وكانت الحكم لا تتراءى إلا للأفراد من العباد، كرره سبحانه وتعالى على طريق الاستئناف لجواب من يقول: وهل بعده من عسر؟ مؤكداً له ترغيباً في أمره ترقباً لما يتسبب عنه مبشراً بتكريره مع وحدة العسر وإن كان حمل كل واحد منهما على شيء غير ما قصد به الآخر ممكناً فقال: { إن مع العسر } أي المذكور فإنه معرفة، والمعرفة إذا أعيدت معرفة كانت غير الأولى سواء أريد العهد أو الجنس { يسراً * } أي آخر لدفع المضار والمكاره، فإن النكرة إذا أعيدت نكرة احتمل أن تكون غير الأولى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إنها غيرُها" فقال الحسن البصري: إن الآية لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتاكم اليسر لن يغلب عسر يسرين" وقد روى هذا من أوجه كثيرة، وروى عبد الرزاق عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لو كان العسر في جحر ضب لتبعه اليسر حتى يخرجه" وللطبراني عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان العسر في جحر لدخل عليه اليسر حتى يخرجه" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية، قال الحافظ نور الدين الهيثمي: وفيه أبو مالك النخعي وهو ضعيف، ورواه الطبراني أيضاً في الأوسط والبزار عن أنس رضي الله عنه بنحوه، قال الهيثمي: وفيه عائذ بن شريح وهو ضعيف، وروى الفراء عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم وهو يضحك ويقول: "لن يغلب عسر يسرين" وروى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن الحسن به مرسلاً، ومن طريقه أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب ورواه الطبري من طريق ابن ثور عن معمر، ورواه ابن مردويه من طريق أخرى موصولاً وإسناده ضعيف، وفي الباب عن عمر ذكره مالك في الموطإ عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه أنه بلغه أن أبا عبيدة رضي الله عنه حضر بالشام فكتب إليه كتاباً فيه "ولن يغلب عسر يسرين" ومن طريقه رواه الحاكم، قال ذلك شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف، وقال: وهذا أصح طرقه - انتهى، وهذا من جهة أن اليسر نكرة والعسر معرفة، وقد اشتهر أن النكرة إذا أعيدت نكرة فالثاني غير الأول، والمعرفة بالعكس، قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في أول تلويحه في الكلام على المعرفة والنكرة: الكلام فيما إذا أعيد اللفظ الأول إما مع كيفيته من التنكير والتعريف أو بدونها، وحينئذ يكون طريق التعريف هو اللام أو الإضافة ليصح إعادة المعرفة نكرة وبالعكس، وتفصيل ذلك أن المذكور أولاً إما أن يكون نكرة أو معرفة، وعلى التقديرين إما أن يعاد نكرة أو معرفة فيصير أربعة أقسام، وحكمها أن ينظر إلى الثاني، فإن كان نكرة فهو مغاير للأول، وإلا لكان المناسب هو التعريف بناء على كونه معهوداً سابقاً بالذكر، إن كان معرفة فهو الأول حملاً له على المعهود الذي هو الأصل في اللام والإضافة، وذكر في الكشف أنه إذا أعيدت النكرة نكرة فالثاني مغاير للأول وإلا فعينه فإن المعرفة تستغرق الجنس، والنكرة تتناول البعض، فيكون داخلاً في الكل سواء قدم أو أخر، وفيه نظر، أما أولاً فلان التعريف لا يلزم أن تكون للاستغراق بل العهد هو الأصل، وعند تقدم المعهود لا يلزم أن تكون النكرة عينه، وأما ثانياً فلان معنى كون الثاني عين الأول أن يكون المراد به هو المراد بالأول، والجزء بالنسبة إلى الكل ليس كذلك، وأما ثالثاً فإن إعادة المعرفة نكرة مع مغايرة الثاني للأول كثير في الكلام، قال الله تعالى: { ثم آتينا موسى الكتاب تماماً } [الأنعام: 154] إلى قوله: { وهذا كتاب أنزلناه } [الأنعام: 155] وقال تعالى: { { اهبطوا بعضكم لبعض عدو } [البقرة: 36] وقال تعالى: { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } [الأنعام: 165] إلى غير ذلك، وقال غيره: { أيسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء } [النساء: 153] ومنه قول الشاعر:

إذا الناس ناس والزمان زمان

فإن الثاني لو كان عين الأول لم يكن في الإخبار به فائدة - انتهى. قال: واعلم أن المراد أن هذا هو الأصل عند الإطلاق وخلو المقام عن القرائن وإلا فقد تعاد النكرة مع عدم المغايرة كقوله تعالى: { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } [الزخرف: 84] { وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية } [الأنعام: 37] { ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة } [الروم: 54] يعني قوة الشباب، ومنه باب التأكيد اللفظي، وقد تعاد النكرة معرفة مع المغايرة كقوله تعالى: { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } إلى قوله: { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } [الأنعام: 156] وقال غيره: { فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير } [النساء: 128] المراد بالنكرة خاص وهو الصلح بين الزوجين، وبالمعرفة عام في كل صلح جائز { زدناهم عذاباً فوق العذاب } [النحل: 88] فإن الشيء لا يكون فوق نفسه - انتهى. قال: وقد تعاد المعرفة معرفة مع المغايرة كقوله تعالى: { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب } [المائدة: 48] وقال غيره: { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء } [آل عمران: 26] الأول عام والثاني خاص، { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } [الرحمن: 60] الأول العمل والثاني الثواب { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } [المائدة: 45] الأولى القاتلة والثانية المقتولة - انتهى، قال: وقد تعاد المعرفة نكرة مع عدم المغايرة كقوله تعالى: { أنما إلهكم إله واحد } [الكهف: 110] ومثله كثير، والمعرفة مثل النكرة في حالتي الإعادة معرفة والإعادة نكرة في أنها إن أعيدت معرفة كان الثاني هو الأول، وإن أعيدت نكرة كان غيره، ثم مثل بالآية التي هنا، وقال: وهذا مبني على أن تنكير { يسراً } للتفخيم وتعريف العسر للعهد، أي العسر الذي أنتم عليه أو الجنس أي الذي يعرفه كل أحد، فيكون اليسر الثاني مغايراً للأول بخلاف العسر - انتهى. وقال في الكشاف: وأما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفاً عن منكر تناول بعضاً غير البعض الأول بغير الإشكال.
ولما علم من هذا أن المواد تكون بحسب الأوراد الشداد لما على الممدود من الشكر، ولما علم للشاكر من الوعد بالمزيد، قال مسبباً عما أعطاه من اليسر بعد ذلك العسر ندباً له إلى الشكر وإعلاماً بأنه لا ينفك عن تحمل أمر في الله: { فإذا فرغت } أي بما آتاك من اليسر يسر من جهادك الذي أنت فيه في وقت المخاطبة بهذا الكلام مما يوجب عسراً في المآل أو الحال، وعقبه العسر في أي موضع كان لا سيما عند دخول الناس في الدين أفواجاً، أو من العبادة الثقيلة العظيمة بسماع الوحي وتحمله، أو من الغرض بالتيسير الذي بشرناك به { فانصب * } أي بالغ في التعب بعبادة أخرى من التسبيح والاستغفار، أو النفل لمن أولاك هذا المعروف { وإلى ربك } أي المحسن إليك بما ذكر في هاتين السورتين خاصة { فارغب * } أي بالسؤال لأنه القادر وحده كما قدر على تربيتك فيما مضى وحده، لأنه المختص بالعظمة، فلا قدرة أصلاً إلا لمن يعطيه ما يريده منها، والرغب شعار العبد دائماً في كل حال أي افعل ذلك { ألم نشرح لك صدرك؟ } فقد اتصل هذا الآخر بالأول اتصال المعلول بالعلة، ولاءم ما بعدها بذلك أيضاً بعينه ملاءمة الشمس بالأهلة، وآخر هذه السورة مشير إلى الاجتهاد في العبادة عند الفراغ من جهاد الكفار في جزيرة العرب بعد انقضاء ما يوازي عدد آي هذه السورة من السنين بعد الهجرة، وهي ثمان، رغبة في الأخرى التي هي خير من الأولى، إشارة إلى قرب الأجل بما أشارت إليه سورة النصر - كما سيأتي إن شاء الله تعالى.