التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ
٢٢
-يونس

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ هُوَ ٱلَّذِى يُسَيّرُكُمْ } كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبـيان جنايةٍ أخرى لهم مبنيةٍ على ما مر آنفاً من اختلاف حالِهم حسب اختلافِ ما يعتريهم من السراء والضراءِ، أي يمكّنكم من السير تمكيناً مستمراً عند الملابسة به وقبلها { فِى ٱلْبَرّ } مشاةً ورُكباناً وقرىء ينشُركم من النشر ومنه قوله عز وجل: { بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } [الروم: 20] { وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِى ٱلْفُلْكِ } أي السفن فإنه جمعُ فَلك على زنة أُسْد جمعُ أسَد لا على وزن قفل، وغايةُ التسيـيرِ ليست ابتداءَ ركوبِهم فيها بل مضمونُ الشرطيةِ بتمامه كما ينبىء عنه إيثارُ الكونِ المؤذنِ بالدوام على الركوب المُشعِرِ بالحدوث { وَجَرَيْنَ } أي السفن { بِهِمُ } بالذين فيها، والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذان مما لهم من سوء الحالِ الموجبِ للإعراض عنهم كأنه يُذكر لغيرهم مساوىءُ أحوالِهم ليعجِّبهم منها ويستدعيَ منه الإنكارَ والتقبـيحَ، وقيل: ليس فيه التفاتٌ بل معنى قوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِى ٱلْفُلْكِ } إذا كان بعضُكم فيها إذ الخطابُ للكل ومنهم المسيَّرون في البر، فالضميرُ الغائبُ عائدٌ إلى ذلك المضافِ المقدر كما في قوله تعالى: { { أَوْ كَظُلُمَـٰتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَـٰهُ } [النور: 40] أي أو كذي ظلماتٍ يغشاه موجٌ { بِرِيحٍ طَيّبَةٍ } ليّنةِ الهُبوب موافقةٍ لمقصدهم { وَفَرِحُواْ بِهَا } بتلك الريحِ لطيبها وموافقتها { جَاءتْهَا } جوابُ إذا والضميرُ المنصوبُ للريح الطيبةِ أي تلقتْها واستولتْ عليها من طرف مخالِفٍ لها فإن الهبوبَ على وفقها لا يسمى مجيئاً لريح أخرى عادةً بل هو اشتدادٌ للريح الأولى وقيل: للفُلك والأول أظهرُ لاستلزامه للثاني من غير عكس لأن الهبوبَ على طريقة الريح اللينةِ يعد مجيئاً بالنسبة إلى الفُلك دون الريح اللينة مع أنه لا يستتبع تلاطمَ الأمواجِ الموجبِ لمجيئها من كل مكان، ولأن التهويلَ في بـيان استيلائِها على ما فرحوا به وعلَّقوا به حبالَ رجائِهم أكثرُ { رِيحٌ عَاصِفٌ } أي ذاتُ عصْفٍ وقيل: العصُوفُ مختصٌّ بالريح فلا حاجة إلى الفارق وقيل: الريحُ قد يذكّر { وَجَاءهُمُ ٱلْمَوْجُ } في الفلك { مّن كُلّ مَكَانٍ } أي من أمكنة مجيءِ الموجِ عادةً ولا بُعدَ في مجيئه من جميع الجوانبِ أيضاً إذ لا يجب أن يكون مجيئُه من جهة هبوبِ الريح فقط بل قد يكون من غيرها بحسب أسبابٍ تتفق له { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } أي هلَكوا فإن ذلك مثلٌ في الهلاك أصلُه إحاطةُ العدو بالحيّ أو سدّت عليهم مسالكُ الخلاص { دَّعَوَا ٱللَّهَ } بدلٌ من ظنوا بدل اشتمال لما بـينهما من الملابسة والتلازم أو استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال ينساقُ إليه الأذهانُ كأنه قيل: فماذا صنعوا؟ فقيل: دعوُا الله { مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } من غير أن يشركوا به شيئاً من آلهتهم لا مخصّصين لدعاء به تعالى فقط بل للعبادة أيضاً فإنهم بمجرد تخصيصِ الدعاء به تعالى لا يكونون مخلِصين له الدين.

{ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا } اللامُ موطئةٌ للقسم على إرادة القولِ أي قائلين: والله لئن أنجيتنا { مِنْ هَـٰذِهِ } الورطة { لَنَكُونَنَّ } البتةَ بعد ذلك أبداً { مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ } لنعمك التي من جملتها هذه النعمةُ المسؤولةُ وقيل: الجملةُ مفعولُ دعَوا لأن الدعاءَ من قبـيل القولِ والأولُ هو الأَولى لاستدعاء الثاني لاقتصار دعائِهم على ذلك فقط وفي قوله: { لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ } من المبالغة في الدِلالة على كونهم ثابتين في الشكر مثابرين عليه منتظِمين في سلك المنعوتين بالشكر الراسخين فيه ما ليس في أن يقال لنشكُرن.