التفاسير

< >
عرض

لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢٦
وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ ٱلْلَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢٧
-يونس

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } أي أعمالَهم أي عمِلوها على الوجه اللائقِ وهو حسنُها الوصفيُّ المستلزمُ لحسنها الذاتي، وقد فسره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "أن تعبدَ الله كأنك تراه فإن لم تكنْ تراه فإنه يراك" { ٱلْحُسْنَىٰ } أي المثوبةُ الحسنى { وَزِيَادَةٌ } أي ما يزيد على تلك المثوبة تفضلاً لقوله عز اسمه: { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } [النور: 38] وقيل: الحسنى مثلُ حسناتِهم والزيادةُ عشرُ أمثالهِا إلى سبعمائة ضعفٍ وأكثر، وقيل: الزيادةُ مغفرةٌ من الله ورِضوانٌ، وقيل: الحُسنى الجنةُ والزيادة اللقاء { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ } أي لا يغشاها { قَتَرٌ } غبرةٌ فيها سوادٌ { وَلاَ ذِلَّةٌ } أي أثرُ هوانٍ وكسوفُ بالٍ، والمعنى لا يرهقهم ما يرهَق أهلَ النار أو لا يرهَقُهم ما يوجب ذلك من الحزن وسوءِ الحالِ، والتنكيرُ للتحقير أيْ شيءٌ منهما والجملةُ مستأنفةٌ لبـيان أمنِهم من المكاره إثرَ بـيان فوزِهم بالمطالب والثاني وإن اقتضى الأولَ إلا أنه ذُكر إذكاراً بما ينقذهم الله تعالى منه برحمته، وتقديمُ المفعولِ على الفاعل للاهتمام بـيان أن المصونَ من الرهَق أشرفُ أعضائِهم وللتشويق إلى المؤخر فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخّر تبقى النفسُ مترقبةً لوروده فعند ورودِه عليها يتمكن عندها فضلُ تمكن ولأن في الفاعل ضربَ تفصيلٍ كما في قوله تعالى: { { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [الرحمن: 22] وقوله عز وجل: { وَجَاءكَ فِى هَـٰذِهِ ٱلْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } [هود: 120] { أُوْلَـٰئِكَ } إشارةٌ إلى المذكروين باعتبار اتصافِهم بالصفات المذكورةِ، وما في اسم الإشارةِ من معنى البُعدِ للإيذان بعلو درجتِهم وسموّ طبقتِهم أي أولئك الموصوفون بما ذكر من النعوت الجميلةِ الفائزون بالمثوبات الناجون عن المكاره { أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } بلا زوالٍ دائمون بلا انتقال.

{ وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيّئَاتِ } أي الشركَ والمعاصيَ وهو مبتدأٌ بتقدير المضافِ خبرُه قوله تعالى: { جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا } أي جزاءُ الذين كسبوا السيئاتِ أن يجازىٰ سيئةً واحدةً بسيئة مثلها، لا يزاد عليها كما يزاد في الحسنة، وتغيـيرُ السبكِ حيث لم يقل: وللذين كسبوا السيئاتِ السوآى لمراعاة ما بـين الفريقين من كمال التنائي والتبايُن، وإيرادُ الكسب للإيذان بأن ذلك إنما هو لسوء صنيعِهم وبسبب جنايتِهم على أنفسهم، أو الموصولُ معطوفٌ على الموصول الأولِ كأنه قيل: وللذين كسبوا السيئاتِ جزاءُ سيئةٍ بمثلها كقولك: في الدار زيدٌ والحجرةِ عمروٌ وفيه دلالةٌ على أن المرادَ بالزيادة الفضلُ { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } وأيُّ ذلةٍ كما ينبىء عنه التنوينُ التفخيميُّ، وفي إسناد الرَهق إلى أنفسهم دون وجوهِهم إيذانٌ بأنها محيطةٌ بهم غاشيةٌ لهم جميعاً وقرىء يرهَقهم بالياء التحتانية { مَّا لَهُمْ مّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } أي لا يعصِمُهم أحدٌ من سُخطه وعذابِه تعالى أو ما لهم من عنده تعالى مَن يعصمهم كما يكون للمؤمنين، وفي نفي العاصمِ من المبالغة في نفي العصمةِ ما لا يخفى، والجملةُ مستأنفةٌ أو حال من ضمير ترهقهم { كَأَنَّمَا أُغْشِيَت وُجُوههم قطعاً مِنَ اللَّيْلِ } لفرط سوادِها وظلمتِها { مُظْلِماً } حالٌ من الليل والعاملُ فيه أغشيت لأنه العاملُ في قِطَعاً وهو موصوفٌ بالجار والمجرور والعاملُ في الموصوف عاملٌ في الصفة، أو معنى الفعلِ في (مِنَ الليل) وقرىء قِطْعاً بسكون الطاء وهو طائفة من الليل قال:

افتحي الباب وانظُري في النجومكم علينا من قِطْع ليلٍ بهيم

فيجوزُ كونُ مظلماً صفةً له أو حالاً منه وقرىء كأنما يغشىٰ وجوهَهم قِطعٌ من الليل مظلمٌ، والجملةُ كما قبلها مستأنفةٌ أو حال من ضمير ترهقهم { أُوْلَـٰئِكَ } أي الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة { أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } وحيث كانت الآيةُ الكريمةُ في حق الكفارِ بشهادة السياقِ والسباقِ لم يكن فيها تمسك للوعيدية.