التفاسير

< >
عرض

أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ
٢
وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ
٣
-هود

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ ٱللَّهَ } مفعولٌ له حُذف عنه اللامُ مع فقدان الشرطِ، أعني كونَه فعلاً لفاعل الفعلِ المعللِ جرياً على سنن القياسِ المطّردِ في حذف حرفِ الجرِّ مع أن المصدريةِ، كأنه قيل: كتابٌ أُحكمت آياتُه ثم فُصّلت لئلا تعبدوا إلا الله، أي لتترُكوا عبادةَ غيرِ الله عز وجل وتتمحّضوا في عبادته، فإن الإحكامَ والتفصيلَ على ما فُصّل من المعاني مما يدعوهم إلى الإيمان والتوحيدِ وما يتفرع عليه من الطاعات قاطبةً. وقيل: أنْ مفسرةٌ لما في التفصيل من معنى القولِ أي قيل: لا تعبدوا إلا الله { إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ } من جهة الله تعالى { نَّذِيرٌ } أُنذركمَ عذابَه إن لم تتركوا ما أنتم عليه من الكفر وعبادةِ غيرِ الله تعالى { وَبَشِيرٌ } أبشركم بثوابه إن آمنتم به وتمحّضتم في عبادته، ولمّا ذُكر شؤون الكتابِ من إحكام آياتهِ وتفصيلِها وكونِ ذلك من قِبَل الله تعالى وأُورد معظمُ ما نُظم في سلك الغايةِ والأمرِ من التوحيد وتركِ الإشراك وُسِّط بـينه وبـين قرينيه ـ أعني الاستغفارَ والتوبة ـ ذِكرُ أن من نُزّل عليه ذلك الكتابُ مرسَلٌ من عند الله تعالى لتبليغ أحكامِه وترشيحِها بالمؤيدات من الوعد والوعيدِ للإيذان بأن التوحيدَ في أقصى مراتبِ الأهمية حتى أُفرد بالذكر وأُيِّد إيجابُه بالخطاب غِبَّ الكتابِ مع تلويح بأنه كما لا يتحقق في نفسه إلا مقارِناً للحُكم برسالته عليه السلام كذلك في الذكر لا ينفكّ أحدُهما عن الآخر، وقد رُوعيَ في سَوق الخطابِ بتقديم الإنذار على التبشير ما رُوعيَ في الكتاب من تقديم النفي على الإثبات والتخليةِ على التحليةِ لتجاوب أطرافِ الكلامِ، ويجوز أن يكون قوله تعالى: { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ ٱللَّهَ } كلاماً منقطعاً عما قبله وارداً على لسانه عليه السلام إغراءً لهم على اختصاصه تعالى بالعبادة كأنه عليه السلام قال: "تركَ عبادةِ غيرِ الله" أي الزموه، على معنى اترُكوا عبادةَ غيرِ الله تركاً مستمراً إنني لكم من جهة الله تعالى نذيرٌ وبشير، أي نذير أنذرُكم من عقابه على تقدير استمرارِكم على الكفر وبشيرٌ أبشرّكم بثوابه على تقدير تركِكم له وتوحيدِكم، ولما سيق إليهم حديثُ التوحيدِ وأُكد ذلك بخطاب الرسولِ صلى الله عليه وسلم على وجه الإنذارِ والتبشيرِ شُرع في ذكر ما هو من تتماته على وجه يتضمّن تفصيلَ ما أجمل وصف البشير والنذير فقيل:

{ وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } وهو معطوفٌ على أن لا تعبدوا على ما ذكر من الوجهين فعلى الأول أنْ مصدريةٌ لجواز كون صلتِها أمراً أو نهياً كما في قوله تعالى: { { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا } [يونس: 105] لأن مدارَ جوازِ كونِها فعلاً إنما هو دلالتُه على المصدر وهو موجودٌ فيهما، ووجوبِ كونِها خبريةً في صلة الموصول الاسميِّ إنما هو للتوصل إلى وصف المعارفِ بالجمل وهي لا توصف بها إلا إذا كانت خبريةً، وأما الموصولُ الحرفيُّ فليس كذلك، ولما كان الخبرُ والإنشاءُ في الدلالة على المصدر سواءً ساغ وقوعُ الأمرِ والنهي صلةً حسبما ساغ وقوعُ الفعلِ فيتجرد عند ذلك عن معنى الأمر والنهي نحوُ تجرّدِ الصلةِ الفعليةِ عن معنى المضيِّ والاستقبال { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } عطف على استغفروا والكلامُ فيه كالكلام فيه والمعنى فُعل ما فُعل من الإحكام والتفصيلِ لتخصّوا الله تعالى بالعبادة وتطلُبوا منه سَتر ما فرَط منكم من الشرك ثم ترجِعوا إليه بالطاعة أو تستمرّوا على ما أنتم عليه من التوحيد والاستغفارِ أو تستغفروا من الشرك وتتوبوا من المعاصي، وعلى الثاني أنْ مفسرةٌ أي قيل في أثناء تفصيلِ الآياتِ: لا تعبدوا إلا الله واستغفِروه ثم توبوا إليه، والتعرّضُ لوصف الربوبـيةِ تلقينٌ للمخاطَبـين وإرشادٌ لهم إلى طريق الابتهالِ في السؤال وترشيحٌ لما يعقُبه من التمتيع وإيتاءِ الفضلِ بقوله تعالى: { يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا } أي تمتيعاً، وانتصابُه على أنه مصدرٌ حذف منه الزوائدُ كقوله تعالى: { { أَنبَتَكُمْ مّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [نوح: 17] أو على أنه مفعولٌ به وهو اسمٌ لما يُتمتّع به من منافع الدنيا من الأموال والبنينَ وغيرِ ذلك، والمعنى يُعِيْشُكم عَيشاً مرضياً لا يفوتكم فيه شيءٌ مما تشتهون ولا ينغصُه شيءٌ من المكدرات { إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } مقدّرٍ عند الله عز وجل وهو آخرُ أعمارِكم، ولما كان ذلك غايةً لا يطمح وراءَها طامحٌ جرى التمتيعُ إليها مجرى التأيـيدِ عادةً أو لا يهلككم بعذاب الاستئصال { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ } في الطاعة والعملِ { فَضْلَهُ } جزاءَ فضلِه إما في الدنيا أو في الآخرة، وهذه تكملةٌ لما أُجمل من التمتيع إلى أجل مسمًّى وتبـيـينٌ لما عسى يعسُر فهمُ حكمتِه من بعض ما يتفق في الدنيا من تفاوت الحالِ بـين العاملين، فرب إنسانٍ له فضلٌ طاعةٌ وعملٌ لا يُمتّع في الدنيا أكثرَ مما مُتِّع آخرُ دونه في الفضل، وربما يكون المفضولُ أكثرَ تمتيعاً فقيل: ويُعطِ كلَّ فاضلٍ جزاءَ فضلِه، إما في الدنيا كما يتفق في بعض المواد وإما في الآخرة، وذلك مما لا مرد له وهذا ضربُ تفصيلٍ لما أُجمل فيما سبق من البشارة، ثم شرُع في الإنذار فقيل: { وَإِن تَوَلَّوْاْ } أي تتولوا عما أُلقي إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبةِ، وإنما أُخّر عن البشارة جرياً على سنن تقدمِ الرحمةِ على الغضب أو لأن العذابَ قد علّق بالتولي عما ذكر من التوحيد والاستغفارِ والتوبةِ وذلك يستدعي سابقةَ ذكرِه، وقرىء تُوَلّوا من ولّىٰ { فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ } بموجب الشفقة والرأفةِ أو أتوقع { عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } هو القيامةُ وُصف بالكِبَر كما وصف بالعِظَم في قوله تعالى: { أَلا يَظُنُّ أُوْلَـئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } [المطففين: 4]إما لكونه كذلك في نفسه أو وُصف بوصف ما يكون فيه كما وُصفَ بالثقل في قوله تعالى: { ثَقُلَتْ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [الأعراف: 187] وقيل: يوُم الشدائد وقد ابتلُوا بقَحطٍ أكلوا فيه الجيَفَ، وأياً ما كان ففي إضافةِ العذابِ إليه تهويلٌ وتفظيعٌ له.