التفاسير

< >
عرض

قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
٨٨
-هود

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ قَالَ يَـا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيّنَةٍ } أي حجة واضحةٍ وبرهانٍ نيِّر، عبّر عما آتاه الله تعالى من النبوة والحكمة رداً على مقالتهم الشنعاءِ في جعلهم أمرَه ونهيَه غيرَ مستندٍ إلى سند { مّن رَّبّى } ومالكِ أموري، وإيرادُ حرفِ الشرط مع جزمه عليه السلام بكونه على ما هو عليه من البـينات والحججِ لاعتبار حال المخاطَبـين ومراعاةِ حُسنِ المحاورةِ معهم كما ذكرناه في نظائره { وَرَزَقَنِى مِنْهُ } أي من لديه { رِزْقًا حَسَنًا } هو النبوةُ والحِكمةُ أيضاً عبّر عنهما بذلك تنبـيهاً على أنهما ـ مع كونهما بـينةً ـ رزقٌ حسنٌ، كيف لا وذلك مناطُ الحياةِ الأبديةِ له ولأمته، وجوابُ الشرط محذوفٌ يدل عليه فحوى الكلامِ أي أتقولون والمعنى إنكم نظمتموني في سلك السفهاءِ والغُواةِ وعددتم ما صدر عني من الأوامر والنواهي من قبـيل ما لا يصِح أن يتفوّه به عاقل وجعلتموه من أحكام الوسوسةِ والجنون واستهزأتم بـي وبأفعالي حتى قلتم إن أمرتُكم به من التوحيد وتركِ عبادة الأصنامِ والاجتنابِ عن البخس والتطفيفِ ليس مما يأمر به آمرُ العقلِ ويقضي به قاضي الفِطنة، وإنما تأمُر به صلاتُك التي هي من أحكام الوسوسةِ والجنون فأخبروني إن كنت من جهة ربـي ومالكِ أمورِي ثابتاً على النبوة والحِكمةِ التي ليس وراءَها غايةٌ للكمال ولا مطمَحٌ لطامح ورزقني بذلك رزقاً حسناً أتقولون في شأني وشأنِ أفعالي ما تقولون مما لا خيرَ فيه ولا شرَّ وراءه هذا هو الجوابُ الذي يستدعيه السباقُ والسياقُ ويساعده النظمُ الكريمُ.

وأما ما قيل من أن المحذوفَ أيصِحّ لي أن لا آمرَكم بترك عبادةِ الأوثانِ والكفِّ عن المعاصي، أو أهل يسعْ لي مع هذا الإنعام الجامعِ للسعادات الروحانيةِ والجُسمانية أن أخونَ في وحيه وأخالفَه في أمره ونهيِه ـ فبمعزل من ذلك، وإنما يناسب تقديرُه ـ إن حمل كلامُهم على الحقيقة وأريد بالصلاة الدينُ على معنى: أدينُك يأمرُك أن تكلفنا بترك عبادةِ آلهتِنا القديمة وتركِ التصرّفِ المطلق في أموالنا وتخالفنا في ذلك وتشُقَّ عصانا، وهذا مما لا ينبغي أن يصدُر عنك فإنك أنت المشهورُ بالحلم الفاضلِ والرشدِ الكاملِ فيما بـيننا كما كان قولُ قومِ صالح { { قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هَـٰذَا } [هود: 62] مسروداً على ذلك النمطِ فأُجيبوا بما أجيبوا به، وعلى هذا الوجهِ يكون المرادُ بالرزق الحسنِ الحلالَ الذي آتاه الله تعالى، والمعنى حينئذ أخبروني إن كنت نبـياً من عند الله تعالى ورزقني مالاً حلالاً أستغني به عن العالمين أيصِحّ أن أخالف أمرَه وأوافقَكم فيما تأتون وما تذرون.

{ وَمَا أُرِيدُ } بنهيـي إياكم عما أنهاكم عنه من البخس والتطفيف { أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَـٰكُمْ عَنْهُ } أي أقصِدَه بعد ما ولَّيتم عنه وأستبِدَّ به دونكم. يقال: خالفت زيداً إلى كذا إذا قصدتُه وهو مولَ عنه وخالفتُه عن كذا إذا كان الأمرُ على العكس { إِنْ أُرِيدُ } بما أباشره من الأمر والنهي { إِلاَّ ٱلإِصْلَـٰحَ } إلا أن أُصلِحَكم بالنصيحة والموعظة { مَا ٱسْتَطَعْتُ } أي مقدارَ ما استطعتُه من الإصلاح، والتقيـيدُ به للاحتراز عن الاكتفاء بالإصلاح في الجملة لا عن إرادة ما ليس في وُسعه منه { وَمَا تَوْفِيقِى } أي كوني موفقاً لتحقيق ما أنتحيه من إصلاحكم { إِلاَّ بِٱللَّهِ } أي بتأيـيده ومعونتِه بل الإصلاحُ من حيث الخلقُ مستندٌ إليه سبحانه وإنما أنا من مباديه الظاهرةِ قاله عليه السلام تحقيقاً للحق وإزاحةً لما عسى يوهمه إسنادُ الاستطاعةِ إليه بإرادته من استبداده بذلك { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في ذلك مُعرِضاً عما عداه فإنه القادرُ على كل مقدورٍ وما عداه عاجزٌ محْضٌ في حد ذاتِه بل معدومٌ ساقطٌ عن درجة الاعتبار بمعزل عن مرتبة الاستمدادِ به والاستظهار { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي أرجِعُ فيما أنا بصدده، ويجوز أن يكون المرادُ وما كوني موفقاً لإصابة الحقِّ والصوابِ في كل ما آتي وأذر إلا بهدايته ومعونتِه عليه توكلتُ، وهو إشارةٌ إلى محض التوحيدِ الذاتي والفعليِّ وإليه أنيب، أي عليه أقبل بشراشِر نفسي في مجامع أموري. وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ على الماضي الأنسبِ للتقرر والتحقّقِ كما في التوكل لاستحضار الصورةِ والدلالةِ على الاستمرار، ولا يخفى ما في جوابه عليه السلام من مراعاة لطفِ المراجعةِ ورِفق الاستنزالِ والمحافظةِ على قواعد حسنِ المجاراة والمحاورَة وتمهيدِ معاقدِ الحقِّ بطلب التوفيقِ من جناب الله تعالى والاستعانةِ في أموره، وحسمِ أطماعِ الكفار وإظهار الفراغِ عنهم وعدمِ المبالاة بمعاداتهم، وأما تهديدُهم بالرجوع إلى الله تعالى للجزاء كما قيل فلا لأن الإنابةَ إنما هي الرجوعُ الاختياريُّ بالفعل إلى الله تعالى لا الرجوعُ الاضطراريُّ للجزاء أو ما يعمه.