{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِـئَايَـٰتِنَا } وهي الآياتُ التسعُ المفصّلاتُ التي هي العصا واليدُ البـيضاءُ والطوفانُ والجرادُ والقُمّلُ والضفادعُ والدمُ ونقصُ الثمراتِ والأنفسِ ومن جعلهما آيةً واحدةً وعدّ منها إظلالَ الجبل وليس كذلك فإنه لقبول أحكامِ التوراةِ حين أباه بنو إسرائيلَ، والباءُ متعلقةٌ بمحذوف وقع حالاً من مفعول أرسلنا أو نعتاً لمصدره المؤكّد أي أرسلناه حال كونِه ملتبساً بآياتنا أو أرسلناه إرسالاً ملتبساً { وَسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍ } هو المعجزاتُ الباهرةُ منها أو هو العصا، والإفرادُ بالذكر لإظهار شرفِها لكونها أبهرَها أو المرادُ بالآيات ما عداها أو هما عبارتان عن شيء واحد، أي أرسلناه بالجامع بـين كونِه آياتِنا وبـين كونِه سلطاناً له على نبوّته واضحاً في نفسه أو موضّحاً إياها، من أبان لازماً ومتعدّياً، أو هو الغلبةُ والاستيلاءُ كقوله تعالى:
{ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَـٰناً } [القصص: 35] ويجوز أن يكون المرادُ ما بـيّنه عليه السلام في تضاعيف دعوتِه حين قال له فرعونُ: { مِنْ رَبّكُمَا } }،[طه: 49] { { فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأولَىٰ } [طه: 51] من الحقائق الرائقةِ والدقائقِ اللائقةِ وجعلُه عبارةً عن التوراة وإدراجُها في جملة الآيات يردّه قولُه عز وجل: { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } فإن نزولَها إنما كان بعد مهلِك فرعونَ وقومِه قاطبةً ليعمل بها بنو إسرائيلَ فيما يأتون وما يذرون، وأما فرعونُ وقومُه فإنما كانوا مأمورين بعبادة ربِّ العالمين عزَّ سلطانُه وتركِ العظيمةِ الشنعاءِ التي كان يدعيها الطاغيةُ وتقبلها منه فئتُه الباغية، وبإرسال بني إسرائيلَ من الأسر والقسْرِ، وتخصيصُ ملئه بالذكر مع عموم رسالتِه عليه السلام لقومه كافة لأصالتهم في الرأي وتدبـيرِ الأمور واتباعِ غيرِهم لهم في الورود والصدور، وإنما لم يصرَّح بكفر فرعونَ بآيات الله تعالى وانهماكه فيما كان عليه من الضلال والإضلال ـ بل اقتصر على ذكر شأن ملئِه فقال: { فَٱتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ } أي أمرَه بالكفر بما جاء به موسى عليه السلام من الحق المبـين ـ للإيذان بوضوح حالِه فكأن كفرَه وأمْرَ ملئِه بذلك أمرٌ محققُ الوجودِ غيرُ محتاجٍ إلى الذكر صريحاً، وإنما المحتاجُ إلى ذلك شأن ملئِه المترددين بـين هادٍ إلى الحق وداعٍ إلى الضلال فنعىٰ عليهم سوءَ اختيارِهم، وإيرادُ الفاء في اتّباعهم المترتبِ على أمر فرعونَ المبنيِّ على كفره المسبوقِ بتبليغ الرسالةِ للإشعار بمفاجأتهم في الاتباع ومسارعةِ فرعونَ إلى الكفر وأمرِهم به، فكأن ذلك كلّه لم يتراخَ عن الإرسال والتبليغِ بل وقع جميعُ ذلك في وقت واحد فوقع إثرَ ذلك اتباعُهم. ويجوز أن يرادَ بأمر فرعونَ شأنُه المشهورُ وطريقتُه الزائغةُ فيكون معنى فاتبعوا فاستمرّوا على الاتّباع، والفاءُ مثلُ ما في قولك: وعظتُه فلم يتعظْ وصِحْتُ به فلم ينزجِرْ، فإن الإتيانَ بالشيء بعد ورودِ ما يوجب الإقلاعَ عنه وإن كان استمراراً عليه لكنه بحسب العُنوانِ فعلٌ جديدٌ وصنعٌ حادثٌ فتأمل. وتركُ الإضمارِ لدفع توهُّمِ الرجوعِ إلى موسى عليه السلام من أول الأمرِ ولزيادة تقبـيحِ حال المتبعين، فإن فرعونَ علَمٌ في الفساد والإفساد والضلالِ والإضلال فاتباعُه لفَرْط الجهالِة وعدمِ الاستبصار، وكذا الحالُ في قوله تعالى: { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } الرُّشدُ ضدُّ الغِيّ وقد يراد به محموديّةُ العاقبةِ فهو على الأول بمعنى المُرشد حقيقةٌ لغويةٌ والإسنادُ مجازيٌّ وعلى الثاني مجازٌ والإسناد حقيقيٌّ.