التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ
١
مِن شَرِّ مَا خَلَقَ
٢
وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ
٣
-الفلق

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

مختلف فيها، وآيها خمس

{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلْفَلَقِ } الفَلَقُ الصُّبْحُ كالفرقِ لأنَّه يفلقُ عنْهُ الليلُ والفرقُ فَعَلٌ بمعنى مفعولٍ فإنَّ كُلَّ واحدٍ منَ المفلوقِ والمفلوقِ عنْهُ مفعولٌ وقيلَ هُوَ ما انفلقَ منْ عمودِهِ وقيلَ هُو كُلَّ ما يفلُقُهُ الله تعالَى كالأرضِ عنِ النباتِ والجبالِ عنِ العيونِ والسحابِ عنِ الأمطارِ والحبِّ والنَّوى عما يخرجُ منهُمَا وغيرُ ذلكَ وفِي تعليقِ العياذِ باسمِ الرَّبِّ المضافِ إلى الفلقِ المنبىءِ عنِ النورِ عَقيبَ الظلمةِ والسَّعةِ بعدَ الضيقِ والفتقِ بعدَ الرتقِ عدةٌ كريمةٌ بإعاذةِ العائذِ مِمَّا يعوذُ منْهُ وإنجائِهِ منْهُ وتقويةٌ لرجائِهِ بتذكيرِ بعضِ نظائِرِهِ ومزيدُ ترغيبٍ لَهُ في الجدِّ والاعتناءِ بقرعِ بابِ الالتجاءِ إليهِ تعالَى، وأمَّا الإشعارُ بأنَّ منْ قدرَ أنْ يزيلَ ظلمةَ الليلِ منْ هذَا العالمِ قدرَ أنْ يزيلَ عنِ العائذِ ما يخافُهُ كما قيلَ فَلاَ إذْ لا ريبَ للعائذِ في قدرتِهِ تَعَالَى عَلى ذلكَ حتى يحتاجَ إلى التنبـيهِ عليهَا.

{ مِن شَرّ مَا خَلَقَ } أَيْ مِنْ شَرِّ ما خلقَهُ منَ الثقلينِ وَغيرِهِما كائناً ما كانَ منْ ذواتِ الطبائعِ والاختيارِ وهَذَا كَمَا تَرَى شَاملٌ لجميعِ الشرورِ فمَنْ توهَم أنَّ الاستعاذةَ هَهُنا من المضارِّ البدنيةِ وأنَّها تعمُّ الإنسانَ وغيرَهُ مِمَّا ليسَ بصددِ الاستعاذةِ ثُمَّ جعلَ عُمومَهَا مَداراً لإضافةِ الربِّ إلى الفلقِ فقدْ نَأَى عنِ الحَقِّ بمراحلَ وإضافةُ الشرِّ إليهِ لاختصاصِهِ بعالمِ الخلقِ المؤسسِ على امتزاجِ الموادِّ المتباينةِ وتفاعلِ كيفياتِهَا المتضادةِ المستتبعةِ للكونِ والفسادِ وأما عالمُ الأمرِ فهُوَ خيرٌ محضٌ منزهٌ عنْ شوائبِ الشرِّ بالمرةِ وقولُهُ تعالَى: { وَمِن شَرّ غَاسِقٍ } تخصيصٌ لبعضِ الشرورِ بالذكرِ معَ اندراجِهِ فيما قبلَهُ لزيادةِ مساسِ الحاجةِ إلى الاستعاذةِ منْهُ لكثرةِ وقوعِهِ ولأنَّ تعيـينَ المستعاذِ منْهُ أدلّ على الاعتناءِ بالاستعاذةِ وأدعَى إلى الإعاذةِ أيْ وَمِنْ شرِّ ليلٍ مُعتكرٍ ظَلامُهُ مِنْ قوله تعالَى: { { إِلَىٰ غَسَقِ ٱلْلَّيْلِ } [سورة الإسراء، الآية 78] وأصْلُ الغسْقِ الامتلاءُ يقالُ غسقتِ العينُ إذا امتلأتْ دمعاً وقيلَ هُوَ السيلانُ وغسقُ الليلِ انصبابُ ظَلامِهِ وغسقُ العينِ سيلانُ دمعِهَا وإضافةُ الشرِّ إلى الليلِ لملابستِهِ لَهُ بحدوثِهِ فيهِ وتنكيرُهُ لعدمِ شمولِ الشرِّ لجميعِ أفرادِهِ ولا لكُلِّ أجزائِهِ وتقيـيدُهُ بقولِهِ تعالَى: { إِذَا وَقَبَ } أيْ دخلَ ظلامُهُ في كُلِّ شيءٍ لأَنَّ حدوثَهُ فيهِ أكثرُ والتحرزَ منْهُ أصعبُ وأعسرُ ولذلكَ قيلَ الليلُ أَخْفَى للويلِ وقيلَ الغاسقُ هُوَ القمرُ إذَا امتلأَ ووقوبُهُ دخولُهُ في الخسوفِ واسودادُهُ لمَا رُوِيَ "عَنْ عائِشَةَ رضيَ الله عنْهَا أنَّها قالتْ أخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بـيدي فأشارَ إلى القمرِ فقالَ تعوذِي بالله تَعَالَى منْ شَرِّ هَذا فإنَّهُ الغاسقُ إذَا وقبَ" وقيلَ التعبـيرُ عنِ القمرِ بالغاسقِ لأنَّ جُرْمَهُ مظلمٌ وإنما يستنيرُ بضوءِ الشمسِ ووقوبُهُ المحاقُ في آخرِ الشهرِ والمنجمونَ يعدونَهُ نحساً ولذلكَ لا يشتغلُ السحرةُ بالسحرِ الموروثِ للتمريضِ إلاَّ في ذلكَ الوقتِ قيلَ وهُو المناسبُ لسببِ النزولِ وقيلَ الغاسقُ الثُّريا ووقوبُهَا سقوطُها لأنَّها إذَا سقطتْ كثرتِ الأمراضُ والطواعينُ وقيلَ هُو كلُّ شرَ يعترِي الإنسانَ ووقوبُهُ هجومُهُ.