التفاسير

< >
عرض

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ
١٠١
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوۤاْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ
١٠٢
-يوسف

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ رَبّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ ٱلْمُلْكِ } أي بعضاً منه عظيماً وهو ملكُ مصرَ { وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } أي بعضاً من ذلك كذلك إن أريد بتعليم تأويلِ الأحاديث تفهيمُ غوامضِ أسرارِ الكتب الإلٰهيةِ ودقائقِ سنن الأنبـياء عليهم الصلاة والسلام فالترتيبُ ظاهر، وأما إن أريد به تعليمُ تعبـيرِ الرؤيا كما هو الظاهرُ فلعل تقديمَ إيتاءِ الملك عليه في الذكر لأنه بمقام تعدادِ النعم الفائضةِ عليه من الله سبحانه والمُلك أعرقُ ـ في كونه نعمةً ـ من التعليم المذكور وإن كان ذلك أيضاً نعمةً جليلةً في نفسه، ولا يمكن تمشيةُ هذا الاعتذارِ فيما سبق لأن التعليمَ هناك واردٌ على نهج العلة الغائيةِ للتمكين فإن حُمل على معنى التمليك لزم تأخرُه عنه، وأما الواقعُ هٰهنا فمجردُ التأخيرِ في الذكر والعطفُ بحرف الواو، ولا يستدعي ذلك الترتيبَ في الوجود { فَاطِرَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَالأَرْضِ } مُبدعَهما وخالقَهما، نُصب على أنه صفةٌ للمنادىٰ، أو منادى آخرُ وصفه تعالى به بعد وصفِه بالربوبـية مبالغةً في ترتيب مبادىء ما يعقُبه من قوله: أَنْتَ وَلِيِّي } مالكُ أموري { فِى ٱلدُّنُيَا وَٱلأَخِرَةِ } أو الذي يتولاني بالنعمة فيهما وإذ قد أتممتَ عليّ نعمة الدنيا { تَوَفَّنِى } اقبِضْني { مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّـٰلِحِينَ } من آبائي أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامةِ فإنما تتم النعمةُ بذلك، قيل: لما دعا توفاه الله عز وجل طيباً طاهراً فتخاصم أهلُ مصرَ في دفنه وتشاحّوا في ذلك حتى همّوا بالقتال فرأوا أن يصنعوا له تابوتاً من مَرمر فجعلوه فيه ودفنوه في النيل ليمُرَّ عليه ثم يصلَ إلى مصر ليكونوا شرعاً واحداً في التبرك به، ووُلد له أفرايـيم وميشا، ولأفرايـيم نونٌ، ولنونٍ يوشعُ فتى موسى عليه الصلاة والسلام ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعده مصر ولم يزل بنو إسرائيلَ تحت أيديهم على بقايا دين يوسفَ وآبائِه إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام.

{ ذٰلِكَ } إشارةٌ إلى ما سبق من نبأ يوسفَ، وما فيه من معنى البُعد لما مر مراراً من الدِلالة على بُعد منزلتِه أو كونه بالانقضاء في حكم البعيدِ والخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبرُه { مِنْ أَنبَاء ٱلْغَيْبِ } الذي لا يحوم حوله أحدٌ وقوله: { نُوحِيهِ إِلَيْكَ } خبرٌ بعد خبر أو حال من الضمير في الخبر ويجوز أن يكون ذلك اسماً موصولاً و(من أنباء الغيب) صلتَه ويكون الخبرُ نوحيه إليك { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } يريد إخوةَ يوسف عليه الصلاة والسلام { إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ } وهو جعلهم إياه في غيابة الجب { وَهُمْ يَمْكُرُونَ } به ويبغون له الغوائلَ حتى تقف على ظواهر أسرارِهم وبواطنها وتطّلع على سرائرهم طُراً وتحيط بما لديهم خُبراً، وليس المرادُ مجردَ نفي حضورِه عليه الصلاة والسلام في مشهد إجماعِهم ومكرِهم فقط، بل في سائر المشاهدِ أيضاً، وإنما تخصيصُه بالذكر لكونه مطْلعَ القصة وأخفى أحوالِها كما ينبىء عنه قوله: وهم يمكرون، والخطابُ وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكنِ المرادُ إلزامُ المكذبـين والمعنى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك، إذ لا سبـيل إلى معرفتك إياه سوى ذلك إذ عدمُ سماعِك ذلك من الغير وعدمُ مطالعتِك للكتب أمرٌ لا يشك فيه المكذِّبون أيضاً ولم تكن بـين ظَهرانِيهم عند وقوعِ الأمر حتى تعرِفه كما هو فتبلّغَه إليهم، وفيه تهكم بالكفار فكأنهم يشكون في ذلك فيدفع شكهم، وفيه أيضاً إيذانٌ بأن ما ذكر من النبأ هو الحقُّ المطابق للواقع، وما ينقُله أهلُ الكتاب ليس على ما هو عليه يعني أن مثلَ هذا التحقيقِ بلا وحي لا يُتصوّر إلا بالحضور والمشاهدة وإذ ليس ذلك بالحضور فهو بالوحي، ومثلُه قوله تعالى: { { وَمَا لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَـٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } [آل عمران: 44] وقولُه: { { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِىّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ } [القصص: 44].