التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ
٥٠
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوۤءٍ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٥١
-يوسف

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَقَالَ ٱلْمَلِكُ } بعد ما جاءه السفيرُ بالتعبـير وسمع منه ما سمع من نقير وقِطمير { ٱئْتُونِى بِهِ } لِما علم من علمه وفضله { فَلَمَّا جَاءهُ } أي يوسفَ { ٱلرَّسُولُ } واستدعاه إلى الملك { قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبّكَ } أي سيدك { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أي ففتشه عن شأنهن وإنما لم يقل: فاسأله أن يفتش عن ذلك حثاً للملك على الجد في التفتيش ليتبـين براءتُه ويتضح نزاهتُه إذ السؤالُ مما يهيج الإنسانَ على الاهتمام في البحث للتفصّي عما توجه إليه وأما الطلب فمما قد يتسامح ويُتساهل فيه ولا يبالىٰ به وإنما لم يتعرض لامرأة العزيزِ مع ما لقِيَ من مقاساة الأحزان ومعاناة الأشجانِ محافظةً على مواجب الحقوق واحترازاً عن مكرها حيث اعتقدها مقيمةً في عُدوة العداوة، وأما النسوةُ فقد كان يطمع في صَدْعهن بالحق وشهادتِهن بإقرارها بأنها راودتْه عن نفسه فاستعصم ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي ولم يصرّح بمراودتهن له وقولِهن: أطع مولاتك واكتفي بالإيماء إلى ذلك بقوله: { إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } مجاملةً معهن واحترازاً عن سوء قالتِهن عند الملكِ وانتصابِهن للخصومة مدافعةً عن أنفسهن متى سمعن بنسبته لهن إلى الفساد { قَالَ } استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل: قال الملكُ إثَر ما بلّغه الرسولُ الخبر وأحضرهن: { مَا خَطْبُكُنَّ } أي شأنكن وهو الأمرُ الذي يحِق لعُظْمه أن يخاطِبَ المرءُ فيه صاحبه { إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ } وخادعتُنّه { عَن نَّفْسِهِ } ورغبتُنّه في إطاعة مولاته هل وجدتُن فيه شيئاً من سوء وريبة؟ { قُلْنَ حَاشَ للَّهِ } تنزيهاً له وتعجباً من نزاهته وعفته { مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء } بالغْن في نفي جنس السوءِ عنه بالتنكير وزيادة من { قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ } وكانت حاضرةً في المجلس وقيل: أقبلت النسوةُ عليها يقرِّرنها، وقيل: خافت أن يشهَدْن عليها بما قالت لهن: { { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن ٱلصَّـٰغِرِينَ } [يوسف: 32] فأقرت قائلة: { الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ } أي ثبت واستقرَّ أو تبـيّن وظهر بعد خفاء، قاله الخليل، وقيل: هو مأخوذ من الحِصة وهي القطعة من الجملة أي تبـين حصةُ الحقِّ من حصة الباطل كما تتبـين حِصصُ الأراضي وغيرها، وقيل: بان وظهر من حصّ شعرَه إذا استأصله بحيث ظهرت بشرةُ رأسه، وقرىء على البناء للمفعول من حَصحَص البعيرُ مباركَه أي ألقاها في الأرض للإناخة قال:

فحصحَص في صُمّ الصفا ثفَناتِهوناء بسلمىٰ نوأةً ثم صمّما

والمعنى أُقرَّ الحقُّ في مقرّه ووُضع في موضعه ولم ترِدْ بذلك مجردَ ظهور ما ظهر بشهادتهن من مطلق نزاهتِه عليه السلام فيما أحاط به علمُهن من غير تعرض لنزاهته في سائر المواطنِ خصوصاً فيما وقع فيه التشاجرُ بمحضر العزيز، ولا بحثٍ عن حال نفسها وما صنعت في ذلك بل أرادت ظهورَ ما هو متحققٌ في نفس الأمر وثبوتِه من نزاهته عليه السلام في محل النزاعِ وخيانتِها فقالت: { أَنَاْ رٰوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ } لا أنه راودني عن نفسي { وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } أي في قوله ـ حين افتريت عليه ـ هي راودتني عن نفسي وأرادت بالآن زمانَ تكلّمها بهذا الكلام لا زمانَ شهادتِهن فتأمل أيها المنصفُ هل ترى فوق هذه المرتبةِ نزاهةً حيث لم تتمالك الخُصماء من الشهادة بها، والفضلُ ما شهدت بهِ الخصماءُ وإنما تصدى عليه السلام لتمهيد هذه المقدمة قبل الخروج ليُظهر براءةَ ساحتِه مما قُذف به لا سيما عند العزيزِ قبل أن يحُلّ ما عقَده كما يُعرب عنه قوله عليه السلام لما رجع إليه الرسولُ وأخبره بكلامهن.